الخميس، 10 مايو 2012

الأسواق كالثورة تأكل أبناءها و... الديمقراطية

من الملف السياسي: قضايا صغيرة، التاريخ:

اننا منذ نهاية الحرب الباردة ونحن نتطلع الى التاريخ على انه خلاصة انتصار الديمقراطية ونظام السوق. ولذلك فشلنا في ان نلحظ ان تلك اللحظة التاريخية تؤشر الى بداية صراع السوق ضد الديمقراطية . هذه العبارات للفرنسي جاك أتالي, الرئيس المؤسس للبنك الأوروبي للتعمير والتنمية وأحد كبار مساعدي الرئيس الراحل فرانسوا ميتران. السوق اذن ضد الديمقراطية! ربما تحضرنا في الاجابة عبارة: (حتى أنت يا بروتس؟) فقد كان الرهان, في مواجهة الأنظمة المستبدة, على الليبرالية, وهي في السوق كالسمكة في الماء, وكما الثوار في محيطهم. ولكن بعد ان انتصرت الاسواق واجتاحت الحدود على مدى القارات, بدأت, كما الثورة, تأكل ابناءها, وفي طليعة هؤلاء الليبرالية.
ويقول تقرير صادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (رمسيس 2000): ان مفاوضات (الجات) كانت تكريسا لليبرالية على النطاق الكوني, ولكن مساحة الليبرالية بدأت تضيق في مفاوضات منظمة التجارة الدولية التي أعقبتها, فقد صار هناك قوانين ومحاكم وسلطة دولية لتنظيم التجارة. هل قلنا سلطة؟ تماما, وهي سلطة الشركات هذه المرة تقوم على انقاض سلطات الدول بالتحالف معها أحيانا, وما تفعله هذه الشركات بدأ يطل بعناوينه وهنا بعضها. البداية في كاليفورنيا ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة كانت السباقة إلى السماح للشركات بالتجسس على موظفيها, ومنح المسئولين في الشركات حق التنصت على جميع الموظفين, مجلس الولاية قال ان البريد الالكتروني والرسائل الخارجة من الشركة قد تسيىء إليها أولاً وتعرضها لملاحقات قضائية, ثم ان هذه الرسائل وهي تبقى محفوظة على مدى عشرات السنين قد تتحول إلى أدلة تستخدم ضد الشركة في أي نزاع قضائي وهو ما حدث لشركة سيارات اضطرت ان تدفع ما يزيد على 300 مليون دولار غرامة بعد ان استخدم خصومها وثيقة محفوظة في البريد الالكتروني تدين الشركة. إذن هل عادة (الأخ الأكبر) لمراقبة المواطنين ليس عبر الدولة هذه المرة, بل عبر الشركات؟ صحيفة (وول ستريت جورنال) الأمريكية حاولت الاجابة على تقريرين يكشف الأول عن وسائل التنصت المعقدة على الانترنت خاصة والثاني يناقش حق التنصت من وجهة نظر أخلاقية واعتمادا على القيم الليبرالية التي تعتبر خصوصية الفرد مقدسة والاعتداء عليها يهدم احدى القواعد التي لا تقوم الديمقراطية من دونها. اكتشافات (سي. ان.ان) يروي التقرير الأول انه بعد موافقة مجلس العموم البريطاني على قوانين العمل الجديدة وفي طليعتها حق العامل في ان يتقاضى أجراً عن كل ساعة عمل اضافية يقضيها في المصنع أو في المكتب, فوجئت ادارة شبكة (سي. ان. ان) في لندن بأن موظفيها ضربوا رقما قياسيا في تسجيل ساعات عمل اضافية, ومن هنا فقد استنجدت بمجموعة الحماية الأمنية لنظام الكمبيوتر العاملة لديها وطلبت منها وضع برنامج يتيح للمسئولين في الشركة الفرصة لمعرفة المواقع التي يدخل عليها كل موظف خلال فترة عمله, وكذلك قراءة بريده الالكتروني, ويقول مدير وحدة الحماية في الشركة (اذا كان هناك موظف يقضى دوامه, وهو يبحر في الشبكة بين موقع وموقع فلا يحق له في نهاية اليوم ان يطالب بساعات عمل اضافية, ان العامل أو الموظف النموذجي يأتي الى العمل كي يعمل ولكن هذا العامل , كما أخشى مفقود, وعالمنا ليس مثاليا. ونجحت مجموعة الحماية في وضع برنامج للمراقبة يقوم بتصنيف نشاطات الموظفين على الانترنت وفق درزينة من الأبواب تتراوح ما بين مواقع التبضع والشراء وما بين البحث عن عمل مروراً بمواقع الألعاب والافلام الخليعة. ومنذ ان وضعت (سي.ان.ان) برنامج التنصت في فبراير الماضي حصل المسئولون على معلومات مذهلة على نشاطات موظفيهم أحد الاكتشافات كان موقعا على الانترنت شعبيا لدى الموظفين وهو موقع للموسيقى, وكان الموظفون يستهلكون يوميا أربعة بالمئة من طاقة الشبكة وهم يقومون بتسجيل الأغاني والموسيقى من ذلك الموقع. موظفون يحبون الرياضة ووفقا للتقرير فإن ما يحدث في (سي.ان.ان) يحدث في شركات كثيرة في الولايات المتحدة وأوروبا ومن بينها شركة للاستثمارات الهندسية في ولاية جورجيا الأمريكية فقد اكتشف مسئولو الشركة ان موظفيهم يستهلكون ثلاثة بالمائة من طاقة شبكات الشركة وهم يراقبون البرامج الرياضية في (سي.ان.ان) ويقول مدير الشركة ان زبائننا يجب ان يحتلوا قائمة العشرة الأوائل في نشاط الشركة وليس برامج سي.ان.ان الرياضية. ويقول التقرير : ان ألمانيا تحظر حتى الآن استخدام وسائل التنصت على موظفيها لأنها تعتبر خرقا للحقوق الشخصية ولكن وسائل التنصت في الولايات المتحدة باتت صناعة رائجة, وتقوم بها الشركات نفسها التي كانت تنتج أدوات التنصت على الهاتف وقد وسعت أعمالها لتشمل الانترنت في المرحلة الحالية, ووسائل التنصت في تطور مستمر وهي تزداد دقة وحساسية!! يدير شركته من شركة أخرى ولكن أين نرسم الخط ونضع حدا لا يمكن تجاوزه من دون خرق خصوصية الموظفين وحياتهم الشخصية؟ السؤال يطرحه التقرير الثاني في (وول ستريت جورنال) ويبدأ باعطاء نماذج عن اساءة استخدام الموظف لمقتنيات الشركة في طليعتها شبكة الانترنت. موظف في شركة خدمة الطرود البريدية تبين انه يملك شركة صغيرة خاصة به يدير أعمالها من مكتبه في شركة الطرود, ويستخدم البريد الالكتروني بكثافة للاتصال بزبائنه, ويتابع الجديد في مجال عمل شركته عبر الانترنت. 60 الف رسالة دينية موظف آخر في شركة لوكهيد المعروفة, وهو رجل متدين أرسل في يوم واحد وعبر البريد الالكتروني 60 الف رسالة يحض فيها المؤمنين على ان يقصدوا كنيسته في أيام الاحاد, مع ان قانون سلوكيات العمل في الشركة يمنع قطعيا أية دعاية دينية في مكاتبها. وقد استغرق توزيع الرسائل ست ساعات توقفت خلالها شبكات الشركة عن العمل وهو ما كلفها مئات الآلاف من الدولارات. ويقول التقرير ان التطورات المذهلة في صناعة الاتصالات بدأت تطرح على المسئولين في الشركات اسئلة تحتاج الى قرار من نوع: اذا كان كثير من الموظفين يتعاملون بالاسهم, ومعظم الامريكيين يفعل ذلك, فهل يسمح للموظف بالقاء نظرة سريعة على حركة تداول الأسهم, وان يعقد صفقة سريعة اذا كانت الفرصة مناسبة؟ ثم وخاصة في مواسم الانتخابات, هل يحق للموظف ارسال رسالة تأييد لمرشحه أو الاتصال بآخرين عبر الانترنت لدعم مرشح معين؟ وماذا لو حاول الموظف ان يعثر على وظيفة جديدة عبر الانترنت؟ ويضيف التقرير: في السابق كانت المشكلة محصورة في استخدام اجهزة الهاتف لغايات شخصية, ولكن شبكة الانترنت أكثر اغراء من الهاتف لأن الموظف يستطيع ان يبحر عبر عشرات المواقع, ثم ان مواقع كثيرة تستطيع ان تتعقب زوارها, وسوف يكون محرجا للشركة اذا تبين ان معظم موظفيها يزورون مواقع البحث عن العمل, أو المواقع الاباحية, وهناك من يكتشف ذلك ويتابعه. تحالف الشركة والدولة ان مواقف الشركة من هذه الاسئلة يحكمها العجز عن مراقبة آلاف الموظفين في كل يوم, الا اذا قررت استخدام فرقة من الجواسيس تتابع نشاطات الموظف الالكترونية, وهو ما سوف يزيد الاعباء المالية, بدل ان يخفف منها, ولأن شركة كبيرة مثل (بيونج) تعزز هذه الحقيقة, فقد سمحت لموظفيها باستخدام اجهزتهم لغايات شخصية, مع تحديد عدد من الشروط من نوع ان تكون فترة استخدام الجهاز (معقولة) وألا يحتوي البريد الالكتروني على أية مواد سياسية أو دينية. غير ان شركات اخرى من نوع (امريتك) تمنع موظفيها نهائيا من استخدام الاجهزة لغايات شخصية, ويوقع الموظف مع العقد بيانا يتعهد فيه بذلك, ويقول ناطق باسم الشركة (انهم يعرفون ما ان يطأوا عتبات الشركة ان العمل قد بدأ ووداعا للخصوصية) . هذا عن الشركات, أما اذا قام تحالف بين الشركات والدولة فإن النتيجة مرعبة, وكلنا مازال يذكر الاتهامات التي وجهها كبير العلماء في شركة (كريبتونيوم) لحماية برامج الكمبيوتر (اندرو فرنانديز) الى شركة (مايكروسوفت) وأكد فيها بالدليل الملموس ان الشركة تتعامل مع وكالة الأمن القومي الامريكية وانها تركت في جميع برامجها من ويندوز 95 وحتى ويندوز 2000 مفتاحا سريا يمكن ان تستخدمه الوكالة لمراقبة جميع النشاطات الالكترونية لكل من يستخدم تلك البرامج. بالطبع شركة (مايكروسوفت) نفت التهمة, ولكن ألا يشعر أحدنا ان هناك من يراقبه كلما جلس أمام شبكة الانترنت؟... فعلا وداعا للخصوصية!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق