الخميس، 10 مايو 2012

لنعمة تصير نقمة والجنون مستورد ...

حكايات سياسية: النعمة تصير نقمة والجنون مستورد: حرب تجّار الساحل وقبائل الداخل في أنجولا: بقلم- شوقي رافع - التاريخ:

جامعة اكسفورد في بريطانيا أصدرت قبل أعوام كتاباً يحمل عنوان (استعمار أفريقيا) لمجموعة من المؤرخين, وبعد قراءة ماورد في الكتاب من أهوال ومذابح يمكن للقارىء ان يضع عنواناً شعبياً هو (النعمة عندما تصير نقمة)وهو عنوان تندرج تحته كل الحروب الافريقية وحتى نهاية القرن الحالي , وربما تشمل القرن المقبل ايضاً, فالعولمة تجتاح القبائل والعشائر والافخاذ والبطون, ومدير الشركة العابرة للقارات يتحول الى ساحر القبيلة. العاج كان بداية النعمة التي انقلبت نقمة, ثم جاء المطاط والخشب, فالماس والذهب والنفط واليورانيوم ومابينها جميعاً كان الرقيق... ومعها جميعاً زحفت الحروب والمجاعة, وهي حروب ربما تبدو مجنونة ولكنه جنون محسوب ومستورد ومدفوع الثمن.
ولنأخذ مايجري في انجولا (10 ملايين نسمة) والكونغو (40 مليون نسمة) كنموذج, من دون ان يغيب عن بالنا مايجري في الجزائر والسودان والصومال واريتريا... الشعار يتغير والحرب تستمر (النفط لك و... الماس لي) هذا ما أصّر عليه جوناس سافيمبي, زعيم حركة (يونيتا) الانجولية في خلال مفاوضاته مع حكومة انجولا الشرعية في عام ,1996 ووافقت الحكومة, شرط ان يوافق سافيمبي على دمج قواته في الجيش الشرعي, ووافق زعيم (يونيتا) ولكنه بدلا من ان يرسل جنوده وعددهم يزيد عن (62) الفاً وفقاً لمجلة (الايكونوميست) البريطانية, أرسل الحمّالين والمزارعين الى مراكز التجميع واحتفظ بالقوات المقاتلة في منطقة (لوزامبا) حيث مناجم الماس, وبالتالي فإن الحرب الأهلية التي عاشتها أنجولا على مدى (16) عاماً يمكن ان تستمر مائة عام اخرى. سافيمبي وصفه الرئيس رونالد ريجان بأنه ابرز الروّاد المقاتلين من أجل الحرية. وكان سافيمبي, طوال فترة الحرب, يتلقى الدعم من وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية (سي. آي. ايه) كما من حكومة جنوب افريقيا العنصرية, قبل ان يتولى نيسلون مانديلا السلطة. في عام 1986 وقبل انهيار الامبراطورية السوفييتية, وقع سافيمبي اتفاقاً مع الحكومة الشيوعية في انجولا على وقف الحرب الأهلية... ولكن الحرب استمرت, وبعد ستة أعوام وقع اتفاقاً آخر, ثم في عام 1996 وقع اتفاقا ثالثا... وهنا قالت له الولايات المتحدة الامريكية: كفى (!). لماذا؟ لان المصالح الغربية في النفط والماس باتت مضمونة, فقد وقعت حكومة انجولا عقدين, الاول مع شركة (ايداس) النمساوية, وهي شركة (أمنية) ولكنها حصلت على امتياز للتنقيب عن الماس في المنطقة الواقعة بين انجولا والكونغو, ووعدت شركات امريكية بالمشاركة في هذا الامتياز, والعقد الثاني كان مع شركة (المصادر العسكرية المحترفة) وهي شركة ادت مهماتها بنجاح في كل من كرواتيا والبوسنة ومنحتها الحكومة الانجولية الحق في تدريب جيشها الوطني ومشاركته في مهماته القتالية, اذا اقتضت الحاجة. سافيمبي من ناحيته, وقد حصل العام الماضي على مبلغ 450 ألف دولار من مبيعات مناجم الماس يبحث عن شركاء نافذين في اوروبا, وهو جاهز مع قواته لمتابعة الحرب التي اختارت لها (الايكونوميست) عنواناً هو: الحرب بين تجار الساحل وقبائل الداخل (!). سياسة قطع الأيدي (اقطع يدي الاثنتين ودعني أرتاح) العبارة نقلها قبل مائة عام القنصل البريطاني روجر كيسمنت عن مواطن افريقي يعيش في الكونغو. القنصل كان يقوم بتحقيق ميداني عن حياة (السكان الاصليين) في تلك البلاد. والكونغو في ذلك الوقت كان بلجيكياً وكان فرنسياً. الفرنسيون استولوا على الكونغو (الاصلي) , ووزعوه على 42 شركة فرنسية كي (تستثمره) , اما الكونغو البلجيكي فكان من اختراع الملك ليوبولد الثاني شخصياً, واليه تنسب العاصمة ليوبولد فيل, الملك كان طموحاً, وخلال عشر سنوات فقط من احتلال الكونغو نجح في ان يحصد مبلغ (60) مليون فرنك من تجارة العاج والمطاط والخشب, وان يستثمر هذا المبلغ في شراء اراضٍ له في مدينة بروكسيل وفي تشييد قصور وكنائس وملاعب تحولت معها بروكسيل من مدينة ريفية الى عاصمة اوروبية تنافس باريس ولندن. المؤرخ البريطاني لتلك المرحلة جين ستينجر يقول ان ليوبولد مارس سياسة خاصة به اسمها (سياسة قطع الايدي) لارهاب السكان الاصليين, فقد كان جنود الملك يغيرون على القرى وينتقون الشباب والاطفال والكهول ويرسلونهم الى حقول المطاط داخل الغابات على ان يعود كل منهم بحمولة معينة من المطاط, وخلال مدة محددة, وعندما ينتهي هذا المواطن الاصلي من تنفيذ المهمة كان يحصل على فترة راحة يقضيها مع عائلته تستمر يومين, وعلى كيس من الملح (!), وبعدئذ كان عليه ان يعود الى الغابة لمتابعة العمل, وتروي لجنة تحقيق زارت احدى القرى انها كانت تضم حوالي (20) رجلاً, مات أربعة منهم اعياء, بينما كان بعضهم يعود وهو يحمل المطاط على ظهره ويسير على... أربع (!). وكانت الصرخة تتردد في الغابة (اقطع يدي الاثنتين ودعني ارتاح) وكان الجنود يحققون هذه الأمنية, ويحملون الايدي المقطوعة خلال اغاراتهم على القرى, ويحتفظون بها كي ينالوا رضى رؤسائهم. أما في الكونغو الفرنسي فقد كان العاج هو قبلة الشركات, ووفقاً للمؤرخة كاثرين كوكوتي فإن الشركات الفرنسية حصلت على ماقيمته مليون و400 الف فرنك في عام ,1896 وبلغت هذه التجارة الذروة في عام ,1905 حيث تم تصدير (210) طن ــ متري قيمتها أربعة ملاين فرنك, حوالي ملياري دولار بأسعار اليوم, وبعدها بدأت الأفيال تنقرض... نفايات سامة بدل الذهب بلجيكا حكمت الكونغو حتى عام 1960 أبادت خلالها قطعان الأفيال ووحيد القرن للحصول على العاج, وقضت على غابات بكاملها للحصول على الخشب, ثم اكتشفت الذهب والماس واليورانيوم وحوّلت مقاطعة كاتانغا الى غابة من المناجم, وقد تفتقت عبقرية الشركة البلجيكية عن (الاستغلال المزدوج) للمناجم اذ بعد ان يتم استخراج الذهب أو الماس من المنجم فقد كانت الشركة تعود الى تفريغ النفايات السامة القادمة من المصانع البلجيكية داخل المنجم وتغلقه... ويبقى السم بعد ان ينتهي الدسم (!). في عام 1960 قررت بلجيكا ان تمنح الكونغو الاستقلال, بعد ان نجحت الثورات الافريقية في تحرير (17) دولة في ذلك العام, ولكن بلجيكا قررت ايضا الاحتفاظ بمقاطعة كاتانغا وتولى باتريس لومومبا رئاسة الوزراء في اول حكومة مستقلة, بينما تولى رئاسة الجمهورية جوزيف كوسوفوبو واعلن لومومبا في اول خطاب له انه سوف يمنح الاولوية لتحرير كاتانغا واستعادتها الى الوطن الام. وطلب المساعدة من الأمم المتحدة ومن امريكا ومن الاتحاد السوفييتي لتحقيق هذه الغاية (لان الكونغو من دون كاتانغا هو خزينة فارغة) كما قال لومومبا. هنا يبدأ الفصل الثاني في حياة الكونغو, حيث يقرر الرئيس الامريكي ووايت ايزنهاور ان القسّ الكاثوليكي باتريس لومومبا هو شيوعي, وانه كاسترو افريقيا, وبالتالي لابد من (تصفيته) . ويكشف كتاب (الوكالة: ارتفاع وسقوط السي. آي. ايه) كيف انه للمرة الاولى في التاريخ الامريكي يصدر عن الرئيس شخصياً امراً لوكالة الاستخبارات المركزية الامريكية باغتيال زعيم دولة ليست في حالة حرب مع امريكا, ووفقاً لوثائق الكونجرس الامريكي فقد وضعت (السي. آي. ايه) عدة خطط لاغتيال القائد الافريقي من بينها تدريب مقاتلين محترفين, ليس امريكيين, وتزويدهما بمعدات قتل جرثومية, بحيث يبدو الاغتيال موتا طبيعيا, ولكن هذه الخطة له يتم تنفيذها كما يزعم الكونجرس, اذ ان الجنرال موبوتو, المدعوم من بلجيكا ومن السي. آي. ايه, انقلب على حكومة الاستقلال, مما اضطر لومومبا الى اللجوء لقوات الأمم المتحدة في الكونغو, وهنا تقول الرواية ان لومومبا فرّ من المعسكر, ولكن قوات موبوتو سيسي سيكو قبضت عليه وقتلته (!) وتولى من بعده قيادة الثورة المسلحة لورنت كابيلا, وبعد 37 عاماً من القتال ضد سيسي سيكو نجح في اقتلاعه بدعم وترحيب من الغرب, فالجنرال استوفى مهماته وبات منجماً فارغاً. لماذا رحب الغرب باستثناء فرنسا بانتصار كابيلا وريث لومومبا وكاسترو افريقيا؟ بالتأكيد ليس لأن سيسي سيكو قام بانتهاك حقوق الانسان, بل ببساطة لان هذا الغرب يريد ان يستعيد مبلغ 14 مليار دولار هي مجموع القروض التي قدمها لنظام سيسي سيكو وعجز الجنرال عن تسديدها, لانه امّا صرفها كنفقات شخصية او اودعها في بنوك الغرب, او اشترى بها عقارات مازالت قائمة في الغرب ايضا, وبالتالي فان على كابيلا ان يبدأ بالتسديد وعليه ان يقتطع من لحم شعبه مايشبع به كلاب الدائنين, واذا لم يفعل فالبدائل جاهزة, والحرب اولها...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق