باراك يقبض ثمنه مقدما والعرب يختلفون
على جلده قبل صيده موسم صيد الدب في الشرق الاوسط، نجاح محادثات السلام
يترافق مع المجازر، والانسحاب من الجنوب مع حديث الحروب - التاريخ:
12 مايو 2000
اصر السلطان ان يصطحب الحكيم معه في رحلة لصيد الدب, وعندما عاد الحكيم من الرحلة سأله صديق له,كيف كانت الرحلة؟ ـ غاية في الكمال * كم دبا اصطدت؟ ـ ولا دب. * كم دبا طاردت؟ ـ ولا دب. * كم دبا شاهدت؟ ـ ولا دب. * إذن كيف تقول انها كانت غاية في الكمال؟ ـ لأنك عندما تذهب في رحلة لصيد الدب فإن افضل ما يمكن ان يحدث هو ألا تعثر عليه. ... والشرق الاوسط, ومنذ تسعة اشهر ومع وصول ايهود باراك الى رئاسة الحكومة في اسرائيل يعيش موسم صيد الدب, وبيل كلينتون هو السلطان, وما اقل الحكماء معه.
ولأن عنوان الرحلة هو تحقيق السلام على المسارات كلها: الفلسطيني واللبناني والسوري, نبدأ من المسار الفلسطيني. يروي تقرير قدمته (خدمة نيويورك تايمز) من قرية (جبة) في الضفة الغربية ونشرته صحيفة (هيرالد تربيون الدولية) الحكاية كالتالي: مقتل أم سواء كان هناك محادثات للسلام او لم يكن فإن المجتمع الفلسطيني ما زال يعتبر (الشهادة) هي وسام شرف, ولكن احدا لم يتوقع ابدا ان تتحول حلمية طوس, وهي ام لـ 12 ولدا, الى شهيدة, لم تكن متعصبة, لم تكن حتى مسيسة, وفي هذه القرية الصغيرة كانت تربي عنزاتها ودجاجاتها و... اطفالها, كانت تلك حياتها بسيطة ومحسومة. ان مقتلها في ليلة 20 مارس ضاع في ثنايا احداث متدفقة ففي اليوم التالي انسحبت اسرائيل من مناطق مهمة في الضفة الغربية كما ان البابا جون بول الثاني وصل الارض المقدسة, اما في العالم العربي فقد كان يوم عيد الامهات, وقد دفن اطفال السيدة طوس امهم بهدوء, بينما كان زوجها محمود يرقد في المستشفى فاقدا الوعي. ويروي التقرير ان جنديا او جنودا اسرائيليين اطلقوا النار على السيدة والسيد/ طوس فأصيبت هي في رأسها وزوجها في ظهره, بينما كان يقود السيارة قرب حاجز اسرائيلي وتقوم السلطات الاسرائيلية حاليا بالتحقيق في الحادث. يقول الجيش ان الجنود اعتقدوا انهم يتعاملون مع (خلية من الارهابيين) قبل ان يكتشفوا فيما بعد انهم في الواقع كانوا يتعاملون مع ام في الخامسة والاربعين من عمرها, وأب في الثامنة والاربعين يحمل تصريحا اسرائيليا للعمل في الانشاءات داخل اسرائيل وهو ما يزواله منذ 21 عاما. كانت ليلة متوترة وفي التفاصيل يقول التقرر: كانت ليلة متوترة في الضفة الغربية, بعد هجوم ادى الى جرح ثلاثة اسرائيليين يستقلون سيارة تاكسي قرب الخليل, الجيش الاسرائيلي اقام عددا من الحواجز, وهو يقول ان محمود طوس قام باستدارة كاملة عند مشاهدة الحاجز الاسرائيلي, بدا وكأنه يحاول الهروب, وكاد ان يجتاح جنود الحاجز.. فأطقوا النار دفاعا عن النفس. ولكن محمود الذي خرج من المستشفى مؤخرا يملك رواية مختلفة, فهو يقول انه كان عائدا مع زوجته الى المنزل بعد ان اوصلا واحدة من بناتهما التسع الى منزلها في قرية مجاورة عندما صادف حاجزا غير متوقع في الطريق يدعوه الى الالتفاف والعودة من حيث أتى. اضاف انه استدار بسيارته بعد أن انزل زجاج نافذته, ليتكلم مع الجندي الذي اكد له بحركة من يده ان يعود بسيارته وقال محمود انه كان يقود سيارته مبتعدا عن الحاجز عندما صادف سيارة جيب اسرائيلية متوقفة على مرتفع صغير فوق الطريق. ويقول انه ربما اعتقدوا ان سيارته وهي تحمل لوحة اسرائيلية صفراء كانت مسروقة, وربما لم يعرفوا ان الجندي على الحاجز امره بالعودة اذ فجأة انهمر الرصاص مثل زخات المطر وامتلأت السيارة بالدم وهوى جسد زوجته الى جانبه فانطلق الى اقرب قرية عربية ثم استيقظ بعد اسبوع تقريبا في مستشفى الخليل ليسأل اولاده: اين امكم؟ وباقي الرواية معروف, الأم قتلت, الاب مقعد وعاجز عن العمل, وهناك 12 ولدا اكبرهم عمره 16 عاما واصغرهم ايمان وعمرها 4 سنوات. شهادات اجيال وهنا تتوالى الشهادات حول الحادثة وكأنها تكتب التاريخ والمستقبل. والد الضحية, ابراهيم وعمره 81 عاما يقول: ان السلام لا يعني لنا شيئا, نحن لا نستطيع ان نتذوق طمعه, الدم العربي ما زال رخيصا والارض العربية ما زالت محتلة. ويدخل ابراهيم يده في جيب ثوبه البلدي ليخرج منها وثيقة اسرائيلية بالية تحمل حكما قضائيا يسمح له بأن يقطف العنب والتين من ارضه المتنازع عليها مع المستوطنين, يقول انهم منعوه من ان يدوس الارض منذ سنين ولم يستطع العثور على ضابط اسرائيلي يقبل بموافقته لتنفيذ حكم المحكمة. ايمان ابنة الاربع سنوات تعتقد ان امها ذهبت الى الحج في مكة, وهي في كل يوم تقف عند الباب الخلفي للمنزل تراقب التلال امامها على امل ان تراها عائدة من الحج. اما محمد وعمره 15 عاما وكان يضع على رأسه قبعة بيسبول بشكل مقلوب فإنه يقول بغضب: ما هو اسوأ من مقتل امي ان احدا لم يهتم, قتلت بدم بارد ولم تظهر اية ردة فعل, لم يتحرك احد, الجيش الاسرائيلي قال انه اسف, شاهدتهم في التلفزيون ولكن ماذا نفعل بهذا الاعتذار نحن لا نستطيع ان نأكله؟ وماذا عن اهلنا اين كانوا؟ في السابق عندما كانت العادة ان يقتل الجيش الاسرائيلي الفلسطينيين فإن الناس كانت تخرج الى الشارع, ولكن هذه المرة لا شيء اكثر من عبارات التعزية.. ثم اين كانت السلطة الفلسطينية واين كان ياسر عرفات؟ كانوا مشغولين جدا باستقبال البابا) . ولعل محمد بلغ سن الحكمة مبكرا, فهو مثل جده ابراهيم, لا يرى في السلام الاسرائيلي اكثر من رحلة لصيد الدب... والسلام الذي يطارده بيل كلينتون لا يستطيع الفلسطينيون تذوقه فهو مر ويزداد مرارة مع كل خطوة باتجاه المرحلة النهائية من المفاوضات ومن حق محمد كما من حق ابراهيم ان يتجاهلا هذا السلام عندما لا يعني اكثر من الموت... بصمت. واذا كانت هذه حال الفلسطينيين في الداخل, وهم يعيشون اوهام الدولة المستقلة فإن اللاجئين في الخارج يعيشون من دون اوهام وحتى نهاية رحلة الصيد... فالدولة المستقلة لا تستوعبهم. موعد لبنان مع الدب وموعد لبنان مع الدب في يوليو المقبل, واللبنانيون محترفو صيد, وهم منذ 22 عاما يطاردون الدب, والصيد بات قريبا: انسحاب اسرائيل حتى الحدود الدولية من دون شروط ولا جيوب, مع توفير قوات دولية, يفترض انها لحماية لبنان وليس اسرائيل. بالطبع السلام هو حلم كل لبناني وعربي واستعادة الجنوب الى حضن الوطن الام امنية لم تتحقق الا بعد ان ارتوت الارض بدماء الشهداء من ابنائها.. ولكن من يستعيد السوابق ويستمع الى الصقور في اسرائىل والحمائم يكاد يستعيذ من ظهور الدب. ففي السابق ان مجزرة قانا وقعت بينما محادثات السلام في ذروة نجاحها فقد كانت ثمانين بالمئة من القضايا المختلف حولها بين سوريا واسرائىل قد وجدت لها حلا, وكان السلطان العالمي اياه بيل كلينتون يخفي في عبه وديعة وكيله المحلي رابين وكان بعضهم في اسرائيل, وخاصة شمعون بيريز يزعم انه رأى الدب فعلا, وكتب في وصفه آلاف العبارات ضمنها في كتابه (محارب من اجل السلام وفاضت دماء قانا ولم يظهر الدب) . من يصيد من؟ اليوم الوضع يختلف بالتأكيد, او هكذا يفترض, فالجنرال السابق ايهود باراك يقود حملة صيد دولية وبرعاية الامم المتحدة ورفقة حكيمها كوفي انان, ولكن احدا حتى الآن لا يعرف مثلا ما الذي يريد باراك صيده, فالتهديدات تفيض سيولا, ومن بينها ان الحرب مع سوريا ربما تكون ضرورية لعقد اتفاقية سلام وان ارض لبنان سوف تحترق واطفاله سوف يقتلون... وضرب المصالح السورية في لبنان وصولا الى ضرب القوات في سوريا, وتتم ترجمة هذه التهديدات العبرية وهي تعلن عن نفسها وكأنها القضاء والقدر لا راد لهما بتحليلات غربية تبشر بصراعات عربية على الدور الاقليمي وبأوضاع غير مستقرة في سوريا ولبنان تنذر بحروب داخلية في اسرائىل نفسها فإن صحيفة اسرائىلية هي من قال ان حكومة باراك بعد ان حملت بمشاريع السلام مدة تسعة اشهر بدأت مخاضها مبشرة بمولود اسمه (بيبي) في اشارة الى آخر استطلاع للرأي العام في اسرائيل تساوت فيه حظوظ ايهود باراك مع سلفهة بنيامين نتانياهو في الوصول الى السلطة في حال جرت الانتخابات اليوم... هل هذه الصور تستحق فعلا الاحتفال مسبقا بصيد الدب؟ يقول نيتشه الفيلسوف: ليس الارتفاع هو المخيف بل السقطة, والآمال مرتفعة فعلا, وما يخيف ان يقبض باراك ثمن الدب بينما العرب يختلفون على جلده قبل صيده. بقلم: شوقي رافع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق