الاثنين، 7 مايو 2012

اثنان و اربعين عاما على قيام الوحدة المصرية... السورية ، الذاكرة الملغومة

التاريخ:

تختزن الذاكرة العربية اسماء القتلة والسجانين ووزراء الدفاع وتنسى اسماء المهندسين والمبدعين ووزراء التخطيط والاشغال, وتجربة اول وحدة عربية في التاريخ المعاصر شاهد على هذه الذاكرة الملغومة. )الزبدة والمدفع) شعار رفعه الرئيس الامريكي ليندون جونسون, في اثناء حرب فيتنام, وهو يعني: المدفع لمواجهة العدو والزبدة لرفاهية المواطن وعلى مدى القرن الماضي لم ينجح العرب لا في استخدام المدفع ولا منحوا الزبدة لمواطنيهم مع استثناءات تبدو كبريق شهب تتساقط في عتمة الليل العربي.
سياسة الزبدة والمدفع تكشف عن حاجة الامم الى الرخاء والى دفاع قوي يحمي هذا الرخاء ويحصن دوامه, ولكن الرئيس جونسون فشل في تحويل شعاره الى واقع ونقر على الجبهتين معا, مثله في ذلك مثل رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر ربحت حرب الفولكلاند ولكنها خسرت حربها مع الاتحاد الاوروبي في فولكلاند كانت الحرب عسكرية ومع اوروبا كانت حربا اقتصادية, ومثلها الرئيس الامريكي جورج بوش وهو استطاع ان يجمع اول جيش دولي في القرن العشرين, ليخوض حرب عاصفة الصحراء لتحرير الكويت وان يكسبها ولكنه في الوقت نفسه كان يخسر حرب الزبدة ضد خصمه الديمقراطي.. بيل كلينتون صاحب شعار (انه الاقتصاد... يا غبي) . ما يقوله التاريخ انه يصعب على قيادة واحدة او حكومة واحدة ان تكسب الحربين معا, وقد استوعبت الديمقراطيات الغربية هذا الدرس, ونجحت عبر تبادل السلطة قيادات وحكومات ان تربح الحربين معا او تحد من الخسائر اذا واجهت الهزيمة في احدى الجبهتين. في فبراير من العام 1958 واجه العالم العربي اول تجربة ميدانية في حرب الزبدة والمدفع, مع الاعلان عن قيام الوحدة بين مصر وسوريا ومع ان الانفصال وقع في سبتمبر العام 1961 وقبل مرور ثلاث سنوات على اعلان الوحدة, الا ان التجربة كانت غنية, ولكن هذا الغنى ضاع في سراديب التفسير التآمري للتاريخ وهو ما يكشف عنه مؤرخ امريكي نجح في التمييز بين جبهتي الزبدة والمدفع, بين جبهة السياسة وجبهة الاقتصاد ولعل قراءة ما كتبه تعيد للأجيال الجديدة ذاكرة الزبدة وقد كادت تغيب في هدير الدبابات وصخب المدافع. الدبابة والقطار قبل عامين, وفي الذكرى الأربعين لقيام الوحدة طرحت دكتورة في جامعة عربية تدرس العلوم السياسية على طلاب السنة الرابعة السؤال التالي: عرف بثلاثة أسطر كلا من الشخصيات التالية التي ارتبط اسمها بأول وحدة عربية في التاريخ العربي المعاصر قامت بين سوريا ومصر؟ 1ـ جمال عبدالناصر 2 ـ عبد الحكيم عامر 3 ـ شكري القوتلي 4ـ عبدالحميد السراج 5 ـ نور الدين كحالة. قالت الدكتورة: تنوعت الاجابات, وكان معظمها صحيحا, غير ان شيئا واحدا جمع بينها وهو ان أحدا لم يعرف نور الدين كحالة, هل تصدق هذا؟ قلت بعفوية: أصدق بالطبع, من هو نور الدين كحالة؟.. وفاضت نظرات الدكتورة بالفجيعة, لم تهتف: حتى انت يا بروتوس, ولكنها نهضت إلى رف الكتب خلفها وسحبت كتابا سميكا ألقته أمامي بعصبية, كان الكتاب بالانجليزية ويحمل عنوان (تاريخ الشرق الأوسط) , وقالت أستاذة العلوم السياسية بهدوء هذا كتاب جامعي يدرسه الطلاب المهتمون بالشرق الأوسط في أمريكا, وأضافت بنبرة لم تحاول ان تخفي سخريتها: باعتبارك قوميا عربيا ومن جيل الوحدة, ربما من المفيد ان تقرأ شيئا عن الوحدة كما يرويها مؤرخ أمريكي, خذ الكتاب معك.. حملت الكتاب, وبينما كانت الدكتورة تودعني عند الباب, قالت: كنت أعتقد ان الذاكرة العربية الشعبية وحدها هي المحشوة بالبارود والمدافع وبأبطال المواقع العسكرية.. ربما أغير رأيي, فالنخبة لا تمتلك ذاكرة مختلفة. أضافت: العربي يحفظ أسماء وزراء الداخلية والدفاع وقادة الثكنات وأنواع الصواريخ والطائرات والدبابات ولكنه لا يهتم بأن يعرف أسماء وزراء التخطيط والأشغال ومهندسي السدود والأطباء وكل من يجعل سعادة البشر مهنة وهما يوميا وطريقة حياة. وكانت أستاذة العلوم السياسية في تلك الجامعة العربية تختزن أحزان نصف قرن لأجيال اختارت الدبابة وليس القطار للوصول إلى محطة الوحدة, ولم تصل. المهندس والاستخبارات (الوحدة العربية تكون اقتصادية أو لا تكون) هذه هي النتيجة التي ينتهي إليها المؤرخ الأمريكي سيدني فيشر, بعد دراسة لأول وحدة عربية قامت بين مصر وسوريا في التاريخ الحديث. ويكتب فيشر في (تاريخ الشرق الأوسط) وقد صدرت الطبعة الثالثة منه مؤخرا ان الوحدة بين مصر وسوريا بقيادة جمال عبدالناصر (أطلقت في سوريا قوى جديدة اجتماعية واقتصادية حررت السوريين من السياسات الصغيرة التي حكمتهم وتحكمت بهم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, وزرعت كثيرا من الخلافات بينهم, فالخطة العشرية التي تم وضعها في الخمسينيات بدأت تتقدم إلى الأمام, وفي عام 1961 تم الانتهاء من بناء سد الرستن على نهر دجلة, وهو يوفر الري لحوالي 62500 هكتار من الأراضي الزراعية, كما انه تم وضع المخططات التمهيدية لمشروع السد الكبير في وادي الفرات بكلفة مبدئية تصل إلى 300 مليون دولار, وهو سد كان يفترض ان يشرف عليه المهندس نور الدين كحالة, وزير الأشغال العامة, ويوفر مليون ونصف المليون هكتار من المساحات المروية, بالاضافة إلى طاقة كهربائية تكفي سوريا لفترة طويلة مقبلة, كما انه في عام 1960 أيضا ذهب وفد سوري إلى موسكو وقام بتوقيع اتفاقات تشمل 20 مشروعا اقتصاديا وتبلغ كلفتها 300 مليون دولار, وفي زمن الوحدة فإن صناعات كثيرة في سوريا شهدت ازدهارا غير مسبوق, وخاصة صناعة النسيج والأسمنت والزجاج, أما مصفاة النفط التي تم بناؤها مؤخرا في حمص فقد شهدت مشكلة من نوع فريد وهي ان انتاجها بات أكثر مما تستطيع تسويقه محليا. ويكتب المؤرخ الامريكي عن نور الدين كحالة: في مارس 1958 اعلن الرئيس جمال عبدالناصر عن تشكيل اول حكومة لدولة الوحدة, ابرز الوزراء فيها من سوريا اثنان: عبدالحميد السراج للداخلية (ارتبط اسم السراج بأجهزة الاستخبارات السورية وبالتصفيات الجسدية للمعارضة, ابرزها تصفية الزعيم الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو), والمهندس نور الدين كحالة وزيرا للاشغال العامة, وبعد عدة اشهر شهدت تقلبات سياسية حادة استقال خلالها قائد الجيش الاول (السوري) عفيف البرزي, وتم حل الاحزاب السياسية ثم تشكيل مجلس تنفيذي من 11 عضوا لم يلبث ان ارتفع الى 18 عضوا, لتصريف شئون الحكم في سوريا, وقد اوكلت للوزير نور الدين كحالة رئاسة المجلس, وابرز سماته وضع الميزانية السورية وخطط التنمية الصناعية, ومشاريع الري. وفي 21 يوليو وبعد ان قام جمال عبدالناصر باعفاء اكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار من مناصبهما, اجتمع المجلس الوطني المنتخب واعلن ناصر تعيين المهندس نور الدين كحالة نائبا لرئيس الجمهورية العربية المتحدة, وكان كحالة مهندسا وليس سياسيا.. ثم تولى عبدالحميد السراج رئاسة المجلس التنفيذي, بينما تفرغ المهندس كحالة لوضع الخطط الاقتصادية في اطار الصناعة والزراعة والري. بعد الانفصال الذي قاده مأمون الكزبري مع مجموعة ضباط اعتقل الانفصاليون عبدالحميد السراج, بينما غادر المشير عبدالحكيم عامر الى مصر صبيحة اعلان الانفصال, ولكن الانفصاليين لم يستطيعوا ان يتخلو عن المهندس كحالة, مع انه يعتبر من رموز الوحدة البارزين, فأوكلوا اليه مهمة ادارة مشروع سد الفرات. وينتهي المؤرخ الامريكي اخيرا الى الاشارة بان اسم المهندس كحالة لمع لاول مرة في العام 1950 عندما تم قطع العلاقات بين سوريا ولبنان, فأوكلت اليه مهمة تأهيل ميناء اللاذقية لاستخدامه كبديل عن مرفأ بيروت. ويستنتج المؤرخ الامريكي: ان القوى الجديدة الاقتصادية والاجتماعية التي اطلقتها الوحدة لم تتمكن من حمايتها لان المعارك كانت سياسية وليست اقتصادية, وفي السياسة يمكن لهذه المعارك ان تتكرر, مع قيام أي وحدة, ولكن هذا لا يحدث في الاقتصاد. النفق وسكة الحديد وهو حديث عن المستقبل وليس عن الماضي, فالوحدة الاقتصادية اذا ما تمت لا تلغي السياسة ولكنها تجعلها هامشية, ولعل الحرب الاهلية (التي وقعت داخل حزب المحافظين البريطاني بين مارجريت تاتشر وجون ميجور بشأن الوحدة مع اوروبا تصلح نموذجا, ويمكن تلخيصها بعبارتين: تقول تاتشر عن خليفتها ميجور, بعد ان تتهمه بالخيانة: انه سوف يبيعنا لاوروبا وحتى نهاية النهر. ويرد ميجور: ولكنه النفق, انه ليس في البحر وحده, بل في منازل الناس, وهو يحتاج الى مجنون لاقفاله او الغائه. والنفق المقصود وهو نفق المانش الذي تحول الى رمز لوحدة الجزيرة السابقة مع الاتحاد الاوروبي وليس البريطاني وحده من يحمل نفقه معه, بل اوروبا كلها, اذ ان الاتحاد الاوروبي خصص قبل عامين مبلغ 400 مليون يورو لبناء انفاق تخترق البحار والجبال, وجسور وسكك حديد تربط القارة كلها فيما بينها, هل قلنا سكك حديد؟ ربما يعيدنا هذا الى الخط الذي تم تدشينه مؤخرا بين الاردن وسوريا, وهو جزء من خط سكة حديد الحجاز, غير ان سكة الحديد تلك كانت في مطلع القرن العشرين تربط الحجاز الى عاصمة السلطنة العثمانية وصولا شرقا الى برلين, اما في نهاية القرن العشرين فقد نجح العرب في اعادة تشغيل جزء من سكة حديد كانت موجودة وباستمرار على مدى مئة عام! انها مجددا حكاية الذاكرة الملغومة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق