مجلة العربي، الأحد 1 مايو 1994 21/11/1414هـ / العدد 426
الحياة بعد الموت، كانت - وربما ما زالت - من مسلمات الإيمان لدى كثير من الشعوب ، ولكن العلم الحديث - وخاصة علوم الفيزياء ومدارس التحليل النفسي - يحاول عبر "التجربة" ، واعتمادا على العقل ، البرهنة على أن الموت هو بداية لحياة أخرى، وأن لا تناقض بين العلم والإيمان.
الجريمة وقعت قبل 9 سنـوات، في إحـدى قـرى جبل لبنان، ودخلت ملفات الشرطـة باعتبارها جريمة عاطفية ارتكبها " مجنون "، هنا بعض تفاصيلهـا مع تغيير الأسماء لأن أبطـالها مـا زالوا أحياء.
"خـالـد. م "يملك شاحنـة للنقل، في شتاء عام 1962، تـدهورت الشاحنـة، وقطعت جثـة خالـد نصفين، كـانت ابنته سـارد عندمـا قتل في الثانية من عمرها، بينما كانت زوجته غالية في الثانية والعشرين. بعد 6 سنوات تزوجت غالية ثانية، ولكنها لم تنجب أطفالا، وبعد 12 عامـا دخل فتى بصحبة والديه إلى منزل المرحوم خالد، وقال: "أنا خالد، وقد نطقت ".
كانت الأسرة من الموحدين الدروز، وكانت تؤمن بما يسمى بـالنقلة والخلقة ، أو " التقمص "، ولـذلك استقبلت الفتى بـالحب والترحـاب، وقال إن اسمـه الحالي هو "وهيب "، وبـدأ يـذكـر تفاصيل حيـاتـه الماضية، وطلب من غاليـة أن تذهب إلى "القبو" وأن تبحث عن عشر لـيرات ذهبية أخفاهـا تحت بلاطة في الزاوية اليمنى من القبو، وهلل الجميع عندما رفعت غالية البلاطة لتجد القطع الذهبيـة تماما كـما وضعها خالد في "الجيل الماضي ".
ومنذ تلك اللحظة باتت سارة تناديـه: يا أبي، مع أنـه يصغرهـا بسنتين. وعلى مـدى 11 عاما تـوالت زيارات " وهيب " لأسرتـه " القديمـة ".. إلى أن قـرر زوج غالية أن يبيع قطعة أرض كانت تملكها زوجته، وكـان الزوج شيخـا طـاعنـا في السن، احتجت الزوجـة، بينما صرخ وهيب: ولكن هذه الأرض هي من حق ابنتي سـارة ولا يمكن أن تبيعها (!).. وأصر الزوج، وفي صباح يـوم البيع، فاجأه وهيب بثلاث طلقات من مسدسه، أمام زوجته، ثم أطلق رصاصة أخـرى على رأسـه.. وسقط منتحـرا، واحتفظت الزوجـة مع ابنتـه بالأرض التي دفـع خالـد ثمنها مرتين..
من الفراعنة إلى الهاراكيري
والتقمص هـو من المعتقـدات الموغلـة في القـدم، وعرفتـه الحضارات الفـرعونية والهنديـة والصينية، وورد ذكره في كتاب الموتى عنـد الفراعنـة، كـما عند أهل "التبـت "، وهـو يقـوم على تشبيـه الجسـد بـالقميص، فالإنسـان يستبدل قميصـه القديم عنـد الموت بقميص جـديد عند الـولادة، وبالتـالي يصبح الموت هو محطـة عبـور إلى حيـاة جـديـدة، وقـد استثمرت العسكريـة اليـابانية هذا المعتقد خـلال الحرب العـالميـة الثانيـة، عنـدما ابتكرت موجـات الهجـوم الانتحـارية "الهاراكـيري " فقـد كـان الطيـار اليـاباني ينـدفع بطائرتـه إلى القطع الحربيـة البحريـة الأمريكية فيصطدم بها ويغرقها. وتقول أغنية يابانية في هـذا الصـدد "نموت في النهر لكننـا نـولـد على الضفـة، ونمـوت في البحـر ولكننـا نعـود إلى الشاطىء" ، كـما أن طـائفـة الـدروز الموحـدين التي تنتشر في لبنان وسـوريـا وفلسطن استلهمت هذا الإيـمان خـلال الثـورة السـوريـة على الفرنسيين، في العشرينيات من هذا القرن، وأبدى رجالها لا مبالاة مـدهشـة تجاه الموت، بـاعتبارهـم سيولـدون ثـانية بقمصان جديدة (!).
أمـا في الغـرب الأوربي والأمريكـي، فقد فـاجأ معهد غالـوب في خريف عام 1990 العالم باستبيان تبين فيـه أن ما يـزيد على نصف عـدد سكان أوربـا، وأكثر من النصف في أمريكا يؤمنون بأن هناك نوعا من الحيـاة الأخـرى بعـد الموت ويعلق الـدكتـور جورج غالوب، مدير المؤسسة ومقرها في برنستون- كاليفورنيا على هذا بـالقول: "إنها ظاهرة لم نقم حتى الآن بدراستهـا بشكل جاد، وإذا كان هذا القرن قد تميز بـالاكتشافـات في حقل الفضاء الخارجي، فإن القرن المقبل سوف يشهد بالتـأكيد اكتشافـات تتجه نحـو الفضـاء الداخلي للإنسـان"، ويستنتج المؤلف البريطـاني "جيفري ايفرسـون " أن هنـاك حياة بعد الموت استنـادا إلى حقـائق العلـم والعقل وليس إلى مسلمات العقيدة والإيـمان.
بحثا عن الموتى
"بحثا عن الموتى" هو العنوان الذي اختارته شبكة "بي. بي. سي" الـبريطانية لحلقات تلفزيونية قامت ببثها في عـام 1990، وأحـدثـت دويـا هـائلا لـدى المشاهدين، كشفت خـلالها وعبر عشرات التجارب الميدانية والمقابلات العلميـة، عن تحالف بين علماء الفيزياء وأطبـاء علم النفس الحديث هدفـه اختراق جدار العلوم والفلسفة التقليدية التي أرسى أسسها نيوتن وديكارت وآخـرون والبرهنة علميا على أن ما يسمى العـالم المادي هو في الواقـع "طاقة" ، وأن هذه الطـاقة لا حـدود لحركتهـا وأبعادهـا وأنها يمكن أن تتواجـد في مكانين مختلفين في وقـت واحد، وبـالتالي فإن "العقل " لا يموت بعد موت "الدماغ " وأن هناك حياة أخرى بعد الموت الفيزيـائي، وأن مهمة العلماء في العصر الراهن وفي الزمن المقبل هي التركيز على ما يسمى "علـم العقل " لاكتشـاف تلك الغيـاهب المجهـولة والتي لا يمكن تفسيرهـا في حياة الإنسـان وموته.
وقد تحول المسلسل التلفزيوني إلى كتاب صدر عام 1992، كتبـه جيفري إيفـرسون ، وتصـدر قـائمـة الكتب الأكثر مبيعـا عند صـدوره، وجاء في مقـدمته على لسان عالم النفس البريطاني الـدكتور بيتر فينويك "إن العلم القديم لا يقوم بأكثر من تعريف مكونات الـدمـاغ وكيفية عملـه، وهـذا العلم يوضح نصف الحقيقة فقط عن طبيعتنـا، وما نحتاج إليه اليـوم هو علم العقل لنعرف الحقيقة كـلها".
التخاطر في خدمة.. الشرطة
هـل يملك العقل فعـلا قدرات تمكن صـاحبه من رؤيـة أشيـاء تحـدث على مسافـة مئـات الأميـال من مكـان وجود صـاحبه ، وهل يحدث أحيـانا أن يرى الإنسان أماكـن وأن يمـر بتجارب يشعر أنه شـاهدها أو عرفتها من قبل؟
التجارب العلمية الميدانية، كـما يقول المؤلف، تثبت هذه الحقيقة ، ومن هذه التجارب واحـدة قـام بها الدكـتور كيث هـاري ، مدير مركـز الأبحـاث النفسية المتقدمة ومركزه سان فرانسيسكـو، فقد أحضر فتاة من ويلز في بـريطـانيا إلى نيـويورك، وأقفل عينيهـا بكرات بـلاستيكية، وطلب منها التركيز على هدف، وهو مكـان اختاره دون أن يبوح بـه، وطلب منها أن تعرف هذا المكان بطريقتين: الكتابة والرسم، وقامت الفتاة بـالمهمة، وتبين أن المكان هو حـديقة صغيرة في نيويـورك، يتوسطها تمثـال لـرجل بجنـاحـين وقـد نجحت الفتـاة في رسمـه (!) مع أنها لم تكـن قـد شاهدت نيويورك من قبل (!).
الـدكتـور هاري يسمي هذه القـدرة على التقاط "عقل " الآخر بعلم التخـاطر، وقد تم استخـدام هذا العلم في مسـاعدة الشرطـة في أكثر من مناسبـة على كشف جرائم كان فاعلها مجهولا، أما أبرز المفارقات في هذا المجال فهو ما حـدث في "قضية ابن سـام" وهذا الأخير مجرم أشاع الذعر في مدينـة نيويورك بـداية من عام 1976، وكـان يختار ضحـايـاه من الشبـان والفتيات اليـافعين، ويقتلهم بطلقـة من مسدس عيار 44، ثم اكتسب شهرة واسعة، عنـدما أرسل إلى الصحـافي جيم برسلين في صحيفـة "ديلي نيوز" رسالة ختمها بقوله "إن سام متعطش للدماء، وهو لا يتركني أرتاح قبل أن يـرتوي من الدم وحتى الثمالة" ، وحملت الرسالة توقيع "ابن سام ".
ووفقا لروايـة الكـاتب فإن فـريقا من المحللين النفسيين، بقيادة ضابط مباحث، تطـوعوا لمسـاعدة البوليس في الكشف عن المجـرم عبر "التخاطر"، أي القبض على عقلـه. وفي هذا السيـاق، فإن المحللـة النفسية تيري مارمورو من مركزهـا في كندا أبلغت مفوض الشرطـة في نيويـورك، وعبر الهاتف، أن المجـرم هو ساعـي بريـد، أبيض اللـون، في حوالي الثلاثين من العمر، وحددت مكان عمله، وقالت إن فوقه طيرا كبيرا، وإنه يقود سيارة من نوع فورد، وقد حاولت جـاهدة التقاط رقم لوحـة السيارة غير أنها أخطأت في رقمين وفي حرف واحد من ثلاثة حروف تضمها اللوحة (!)، وقالت المحللة إن المجرم هو من أقلية دينية.
أما كيف حصلت المحللة على هذه المعلومـات، فهي تقـول إنها وضعت بـين يـديها قطعـة قـماش من إحـدى الضحـايا، وكـانت القطعـة ملـوثة بـالـدم، وعبرها تتبعت آثار المجرم (!).
مع ذلك فإن الشرطة لم تتعامل مع هذه المعلومات بجدية، وعندما تم القبـض بالمصادفة على "ابن سام " عام 1977 تبـيئ فعلا أنه ساعي بريد، أبيض، يركب سيارة من نـوع فورد، وأنـه يهودي، وأن الطير الذي شاهـدته المحللـة فوق مركـز عمله كـان النسر وهو شعار مصلحة البريد في أمريكا.
ويقول مفتش الشرطـة: "لو أننـا دققنا بتلك المعلـومات بطريقـة أكثر جـدية ، وخصوصا رقم السيارة، لكنا وفرنا عددا من الضحايا" (!).
ثم يـروي المؤلف عشرات التجارب لأشخـاص عاشوا "تجربة حافة الموت " حيث غادروا أجسادهم لفترات ، شاهدوا خلالها الحياة ما بعد الموت، كـما راقبوا الأطباء وهم يعملـون على أجسادهم "الميتـة" قبل أن يعودوا إليها ويصفوا تجربتهم، ومن بينها تجربة امرأة تعمـل في حقل، نقلت إلى المستشفى، حيـث تبين أنها توفيت بالسكتة القلبية، غير أنها بعد ساعات عادت إلى الحياة، وأخبرت طبيبتها أنها خـرجـت من جسدها وتجولت فـوق مبنى المستشفى، وشاهدت على إحدى النـوافـذ في أقصى بنـاء يقع خلف المستشفى حـذاء ريـاضيا وصفته بدقـة. وقـد سخرت منها الطبيبة، ولكنها أمام إلحاح العائدة من حـافة الموت، ذهبت إلى النافـذة التي حددتها المريضـة لتكتشف فعلا أن هناك حذاء رياضيا يحمل الأوصاف ذاتها.. مع أنه كان من المستحيل على المريضـة أن تـرى الحذاء في الأحـوال العادية، دون أن تقوم بدورة حـول المستشفى تزيد مسافتها عن نصف كيلومتر (!).
وتبلغ ملحمة العقل وقدراته الخارقة لدى المؤلف ذروتها عنـدمـا يتحـدث عن تجارب المحلل النفسي الـبروفيسور "إيان ستيفنسون" من جامعة فـيرجينيا في الولايات المتحدة الأمريكية.
الدكتور ستيفنسون جال في زوايا الأرض الأربع، وسجل 2500 حـالـة مـوثقة لأطفـال تحدثوا عن حياتهم في "جيل سابق "، ووضع هذه الحالات في 4 مجلدات للنشر، كـما أنه لخص هـذه التجارب في مقال عن "التقمص" نشرتـه المجلـة العلميـة المتخصصـة "مجلة الأعصـاب والحمى العقلية"، ويعلق الـدكتور هارولد لاين على المقال فيقـول: "إمـا أن الدكتور ستيفنسـون في تجاربه يرتكب خطأ هـائلا، وإما أنـه جاليليو القرن العشرين".
من البوذيين إلى الهنود الحمر
ومن الحالات النموذجية التي يعرضها الـدكتور ستيفنسون تجربة الفتاة الهندية "شانتي دافي " المولودة في دلهي، إذ إن هذه الفتاة عنـدمـا بلغت الثانيـة من عمرهـا أدهشت من حولها برواية تفـاصيل عن حياة لها في جيل مضى، قالت إنها كـانت تعيش في قرية في شمال الهنـد، تبعـد مئات الأميـال عن دلهي، وإنها توفيت أثنـاء وضع طفلها، وقـد تم تشكيل لجنة من الحكماء لاختبار مدى صدقها، كـما أن أحد المحللين النفسيين استجـوبها ووضع تقريرا مكتـوبـا حـول حياتها ومن كان حولها، ثم وبعد أن شاعت حكايتها انطلقت وراءها مسيرة ضمت ما يزيد على 10 آلاف شخص، عندما قررت الانتقـال إلى قريتها، وهناك تحدثت إلى "زوجهـا" السـابق، وكشفت لـه عن الأمـاكن التي كـانت تخبىء فيهـا نقـود الأسرة، وتفاصيل أخرى، أكد الزوج أنـه لا يمكن لأحد أن يعرفها سوى زوجتـه "السـابقة"، كـما تعـرفت على ولدها وأخيها وأبناء عمها.. (!).
وفي حـالـة ثـانيـة وقعت في الهند أيضـا، يـروي ستيفنسـون شهادة طفل ولـد ويـده اليمنى دون أصابع، قـال الطفل إنه قطع أصـابع يـده اليمنى في "الجيل السـابق " بينما كـان يعمل على منشـار لقطع الأخشاب، وعن بدايـة تذكره لحياتـه الماضية، يقول: لقد كان هناك عرس في القرية، وفجأة شاهدت شابين وعرفت أنهما أخواي، ركضت إليهما وناديتهما بـالاسم، فلم يتعرفـا إلي، ولكن بعد أن حكيت عن تفـاصيل حيـاتي السابقـة، ركضت إلى قـريتي الأولى حيث حضرت والدتي، وقالت لي: لن أصدقك إذا لم تخبرني كيف قطعت أصابعك، فذكرت لها التفاصيل، ثم عـدت معهـا إلى المنزل، بحثت عن المنشار في الحجرة التي كان يـوجد فيها، لم أجده، ثـم وجـدته في الحجرة الثانية، قـالوا إنهم غيروا مكـانـه.. ويعلق الـدكتـور ستيفنسون "إن أهمية هذه الحالـة هو أنها يمكن أن تكـون شهادة دامغـة على انتقال العاهة من جيل إلى جيل، إن من الشـائع أن يـولـد أطفـال من دون أصابع في اليـدين، وليس في يد واحـدة، ومثل هذه الحالـة يمكن أن تحدث مـرة واحـدة من أصل نصف مليون ولادة".
ومـن البـوذيين والهندوس في آسيا، ينتقل الـدكتور ستيفنسـون إلى الهنـود الحمـر فـي القـارة الأمريكية، فيروي شهادة الهندية العجوز إيـما ميتشيل التي تقـول إن ابن أخيهـا جيمي كـان يلعب قبل سنوات خارج المنزل، عندمـا بدأت أجراس الكـنيسة تقرع حدادا على وفـاة أحد الأشخـاص، فسأل: لمن تقرع الأجراس؟ فقلت له: حدادا على "دونالد جي " الـذي مات اليوم، فقـال: هذا هو الشخص الـذي استأجر أشخـاصا قـاموا بضربي ثم بإلقـائي في النهر حيث مت غريقـا.. " وكان جيمي بـذلك يسترجع قصة أحد أفراد العائلـة الذي عثـرت على جثتـه مشوهة في النهـر الـذي يحيط بالقـرية ، ويتم الاعتراف بالطفـل باعتباره "تقمص "، ولكن الشهادة لا تنتهـي هنا، إذ إن جيمي يكبر ولكنه يلقى حتفه مجددا غريقا في النهر نفسه (!). ويولد من جديـد، ليكون هـذه المرة حفيـدا للجـدة إيما.. ويسترجع مـرة واحـدة حياته في جيلين ماضيين.. ويخشى حتـى الموت الاقتراب من النهر (!). وأخيرا..
كـان الفيلسوف وعـالم الرياضيـات اليـونـاني فيثاغورث يروي لتلاميذه ذكريـاته عن الحياة في "الجيل الماضي" فيزعم إنـه كان المحارب "ايغـوريـوس" الـذي قتل في حـصـار طروادة.. ولم يكن فيثاغورث يشعـر بالتناقض بـين حقائق العلم ومسـلمات الإيمان ، وإذا كانت عصور الجهل والظلام قد دفعت بالعالم جاليلو إلى إلغاء "العقل" فإن جيلا جديدا من العلماء يستعيد وحدة الوجود ،مستعينا بهذا العقل العظيم الذي لا حدود لقدراته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق