الاثنين، 27 فبراير 2012

عصر الجنرالات

مجلة العربي، الجمعة 1 ابريل 1994  20/10/1414هـ / العدد 425
مبلغ طائل يدفعه المواطن العربي كل عام من أجل ما يمكن أن يطلق عليه أمنه وسلامته.. يدفعه دون أن يدري ودون أن يحس أنه يقتطعه من ضروريات حياته.
          يدفع المواطن العربي في كل عام 600 دولار تقريبا لحماية أمنه الشخصي والوطني، وإذا كان هذا المواطن العربي يعول أسرة من 5 أفراذ، فإن هذا المبلغ سوف يرتفع إلى 3000 دولار يدفعها سنويا ومنذ 20 عاما، كي يأوي مع أسرته إلى فراشه آمنا مطمئنا، وإذا كان هذا المواطن العربي لا يملك شروي نقير، فلا مبرر لديه للقلق، لأن حكومته سوف تجد دائما من تستدين منه لحماية مواطنيها الأعزاء، أما إذا كان هناك مواطن عربي عزيز لا يصدق أنه يدفع هذا المبلغ فعلا، بينما هو لا يستطيع شراء كتاب مدرسي لابنه إذا توافرت المدرسة، ويعجز عن شراء دواء لابنته إذا توافر الطبيب أو المستشفى، ولا يوفر لحمه الحي لانتزاع ما يكفي من اللحم والخبز لأطفاله، وهو قليل، فإن على هذا المواطن العربي العزيز أن يسعى لاستعارة أو استئجار كتاب "السلاح والخبز" لمؤلفه الدكتور عبدالرزاق الفارس، وعندئد ربما يكتشف أن المدفع وليس الخبز ولا المدرسة ولا العافية هو ما يجعله أكثر المواطنين عزة وكرامة وإباء.. في العالم كله (!).
          ومع أن الكتاب هو دراسة في الاقتصاد السياسي عن الإنفاق العسكري في الوطن العربي من 1970 وحتى 1990 م ومع أن صفحاته وهي تزيد على 400 صفحة، لا تتضمن إلا أرقاما باردة، ورسوما بيانية جافة، وإحصاءات مع مقارنات مرهقة بالإضافة إلى بيانات رياضية، فإن هذا الكتاب يصلح أن يكون "ديوان العرب " في خاتمة القرن العشرين، يحكي عن "أيامهم " في ملحمة سوداء تنبض أرقامها الباردة وحروفها الهادئة بفيض من المرارة والحزن يعجز حتى أصحاب المعلقات أن يأتوا بما هو أشد منه بكاء أو استبكاء ليس على أطلال الماضي فحسب وإنما على أطلال الغد أيضا (!). يقول الدكتور الفارس في مقدمة كتابه: "ظاهرتان بارزتان ميزتا الوطن العربي خلال العقود الأربعة الماضية، الأولى هي بروز أنظمة عسكرية أو أنظمة سياسية مدعومة من قبل المؤسسات العسكرية في العديد من البلدان العربية، والثانية هي ديمومة ظاهرة الحروب والنزاعات المسلحة".
          وعن الظاهرة الثانية يقول: "خلال هذه الفترة كان هناك ثلاث حروب بين العرب وإسرائيل، 1956، 1967، 1973، عدا عن حرب الاستنزاف التي أعقبت نكسة حزيران- يونيو 1967، والاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982، وكذلك الحرب العراقية- الإيرانية خلال الفترة 1985- 1988، يضاف إلى ذلك مئات الحروب والمنازعات الصغيرة والمناوشات الحدودية والحركات الانفصالية".. وحرب الخليج الثانية.
          ويضيف.. "ونتيجة هاتين الظاهرتين، وعوامل أخرى، مثل الارتفاع الهائل في عائدات النفط، أنفقت البلدان العربية ما يقارب من 1000 "ألف " مليار دولار على المؤسسات العسكرية خلال عقدين من الزمن، السبعينيات والثمانينيات.. ".
          هذا هو الرقم الأول في الإنفاق العسكري لحوالي 217 مليونا يضمهم الوطن العربي، وقبل اقتحام المجاهل السرية لهذا الإنفاق الموصوف في معظم البلدان العربية بأنه من أسرار الدولة العليا، والكشف عنه قد يؤدي إلى تعريض الأمن القومي أو الوطني للخطر، لابد من وقفة عند المصادر التي يعتمدها المؤلف، وأبرزها خمسة مصادر هي: تقديرات صندوق النقد العربي، وتقديرات المعهد الدولي لأبحاث السلام في استوكهولم والبيانات التي ينشرها صندوق النقد الدولي، والإحصاءات العسكرية المنشورة من قبل وكالة الحد من التسلح ونزع السلاح في الولايات المتحدة، وأخيرا البيانات العسكرية المتوافرة في التقرير السنوي الذي يصدره المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، ويحدد المؤلف حوالي 300 مصدر بالعربية والإنجليزية اعتمدها في جمع المعلومات الواردة في دراسته، كما أن الدكتور الفارس يعتمد منهجا "حنبليا" في تأليفه، فهو لايتعسف بفرض رأيه أو استنتاجه، وإنما غالبا ما يطرح النظرية ونقيضها والمعلومة كما وردت في أكثر من مرجع ويترك الاستنتاج للقارىء.
كارثة العصر وأخواتها
          الرقم الثاني هو أن حرب الخليج الثانية أو كارثة العصر كما تسمى أوقعت بالمواطن العربي خسائر وصلت حتى الآن " 1991 " إلى مبلغ 1371 مليار دولار، يضاف إليها مبلغ 300 مليار دولار دفعها شعب العراق خلال 8 سنوات من الحرب مع إيران، ومن دون أن تضيف إلى هذه الفاتورة المرعبة خسائر الأرواح البشرية، وخسائر الحروب العربية مع إسرائيل، وهي هائلة التكاليف وتحتاج إلى مجلدات لإحصائها، ودون أن نحسب أيضا تكاليف الحروب في لبنان وفى السودان وفي صحراء المغرب العربي، فإننا نكتشف أن الوطن العربي وخلال العقدين الماضيين، كان يخصص ما يتراوح بين 23 بالمائة كحد أدنى و69 بالمائة من إنفاقه العام للنفقات العسكرية (!).
          وبالتأكيد فإن هذا التعميم "يظلم " بعض الدول الصغرى التي تنفق وفق إحصاءات الكتاب على التربية أكثر مما تنفقه دول أكبر منها، كما أنه لا ينصف بعض الدول الغنية التي تنفق ما يتراوح بين 2000 إلى 4000 دولار سنويا لحماية كل فرد فيها.
ادفع سلما و.. حربا
          وهذا الوطن العربي يدفع سلما ويدفع حربا، في أيام السلم يبني مؤسساته الحربية، ويعمل على تحديث جيوشه ويشتري أسلحة متطورة بما نسبته 15 بالمائة من مجموع نفقاته العسكرية، ومعدل هذه النفقات الوسطى هو 50 ألف مليون دولار سنويا، ثم يحارب فينتصر، كما في حرب العبور المباركة عام 1973، أو "ينتكس " كما في حرب عام 1967، أو ينتحر كما في "أم المعارك ".. وهو في كل الحالات يعيد بناء ما دمرته الحرب، والأهم أنه يزيد من عدد جيوشه، ويرفع من كفاءة أسلحته، ويدفع ثمن أغلى معدات عسكرية في العالم، نقدا أو بالتبادل أو.. بالديون مع الفوائد بالطبع.
          هل الأمور تبدو بهذا السوء؟ عبدالرزاق الفارس يكتفي غالبا بتشخيص حال الأمة، وتوصيف الأعراض التي تنتابها في أيام السلم وفي ساعات الحرب مستعينا بعشرات النظريات والآراء في محاولة فهم النتائج والأسباب، وتقديم الإجابات، أو إثارة التساؤلات متى عزت الإجابة، وهو يلاحظ منذ البداية "أن عنوان الدراسة السلاح والخبز/ الإنفاق العسكري في الوطن العربي، قد يوحي بأن هناك كيانا اسمه "الوطن العربي " وأن له إنفاقا عسكريا، إلا أن الحقيقة هي أن التجزئة كانت الطابع الغالب على البلدان العربية منذ مطلع هذا القرن، وكانت المصالح القطرية هي المحرك الأساسي للعديد من السياسات الاقتصادية والعسكرية، فغياب التنسيق فضلا عن التوحيد لم يؤد إلى هدر الموارد الاقتصادية فقط، وإنما قاد إلى صياغة توجهات مستقلة من قبل البلدان العربية، أدت في بعض الأحيان إلى أوجه من الصراع العسكري بين هذه البلدان، ونظرا إلى أن أحد أهم أهداف الدراسة هو إبراز مقدار العبء العسكري في البلدان العربية، فقد آثرنا دراسة الإنفاق العسكري لكل دولة على حدة، بالرغم من أن الفصل الثالث قد احتوى مقارنة الإنفاق العسكري "للوطن العربي " بالوحدات الجغرافية والعسكرية الأخرى في العالم " كما يلاحظ المؤلف ثانيا "أن الإنفاق العسكري " ليس ظاهرة اقتصادية بحتة، بل ينطوي على جوانب سياسية واجتماعية واستراتيجية، وإخضاع الإنفاق العسكري للتحليل الاقتصادي التقني البحت قد يقود إلى مزيد من الضلال حول هذا الموضوع، وبالرغم من احتواء الدراسة على جوانب عديدة من التحليل الإحصائي والقياسي، إلا أن ذلك قد قدّم ضمن إطار "الاقتصاد السياسي".
العسكرة والتجنيد و.. المجتمع
          وهذا هو الجديد في دراسة الدكتور الفارس، فالأرقام والإحصاءات كما تطرحها المؤسسات الدولية تعنى غالبا بالجانب "التقني " للإنفاق العسكري، حتى عند المقارنة بين ما تصرفه دولة ما على العسكر وما تنفقه على الصحة والتعليم والتنمية، فإن هذه المؤسسات تتعامل مع المواطنين في هذه المجتمعات وكأنهم- على حد وصف الفيلسوف جان بول سارتر- حبات حمص باردة تتدحرج كل حبة بمعزل عن سواها، ولكل منها حصة من المدافع ومن التعليم ومن العلاج، قد تزيد أو تنقص، ولكن هذه الحبات لا تتفاعل فيما بينها، وهذا هو "الضلال " بالتأكيد، لأن "عسكرة" المجتمع مثلا ليست مسألة اقتصادية تقنية، بل هي قضية سياسية واجتماعية واستراتيجية، ولنأخذ كنموذج مسألة تكوين جيش دائم من خلال التجنيد الإلزامي، أو من خلال التجنيد التطوعي غير الإلزامى. يقول المؤلف "من الملاحظ أن العديد من الدول تلجأ إلى الصيغة الأولى أثناء الحرب فقط، ولكن البعض منها مثل اليونان وسويسرا وإسرائيل وكثير من البلدان العربية تطبق ذلك أثناء فترات السلم أيضا، والقضية محل النقاش في التجنيد الإجباري هي أن الأجور التي تدفع للمجندين أثناء الخدمة تقل كثيرا عن الدخل الذي يمكنهم الحصول عليه عند قيامهم بنشاطات اقتصادية أخرى، فالتجنيد الإلزامي من هنا قد يولد جانبين من جوانب التشوه في الهيكل الاقتصادي، أولا: الخسائر الاقتصادية التي تتمثل في تكلفة "الفرصة البديلة" للقوى العاملة المنخرطة في خدمة الدفاع، وهي تساوي الأجور التي يمكن لهؤلاء الحصول عليها في حالة عدم الانخراط في الخدمة العسكرية.  ثانيا: احتمال أن التجنيد الإلزامي يؤدي إلى تدهور أداء المؤسسة العسكرية، حيث إن انخفاض تكاليف هؤلاء المجندين قد يقود إلى ميل المؤسسة العسكرية إلى بناء جيش كبير العدد، ولكنه ضعيف من حيث السلاح، وبالمقابل فإن الجيش التطوعي سيستلزم البحث عن أكفأ الطرق للدفاع والتي قد تعني المزيد من المعدات الحربية، وقليلا من الرجال ".
          ويضيف المؤلف "ينبغي عدم قبول النقاش أعلاه على عواهنه، فالجيش الدائم المكون من متطوعين قد تعتوره نواقص أهمها: أولا: إن التجنيد التطوعي يؤدي إلى عدم العدالة، فمن المتوقع أن يتجه إلى الجيش الطبقات الفقيرة بسبب تدني مستويات التعلم بين أفرادها، وعدم توافر بدائل أفضل، وتبدو عدم العدالة في أوضح صورها حين وقوع حرب، حيث إن عبء الدفاع سيقع على طبقة واحدة في المجتمع، هي الطبقة التي لا تملك، ومن هنا فإنه من الخطورة بمكان التعامل مع الدفاع كسلعة تحدد قيمتها في السوق، الدفاع هو واجب وطني ينبغي تحمله من جميع الأفراد بتباين خلفياتهم الاجتماعية. وثانيا: إذا كان لا يخدم في الجيش التطوعي إلا الأفراد الذين تكلفة الفرصة البديلة لديهم منخفضة، فإن تكوين هذا الجيش وأداءه سيكون ضعيفا بسبب تدني مستويات الأفراد المنتسبين إليه ".
الوحش يخرج من قفصه
          وبالتأكيد فإن خلق الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي يجعل من نفقات الدفاع العربية "شرا لا بد منه " خاصة وأن هذا الكيان العدواني كان يكرس خلال السبعينيات "ربع قيمة الناتج القومي الإجمالي لبرنامج التسلح النووي، وجهود الاستيطان في الأراضي المحتلة، كما جعل متوسط النمو السنوي لنفقات الدفاع تصل إلى نسبة 21 بالمائة وهو من أعلى المعدلات في العالم "، وهو ما دفع أحد الاقتصاديين للقول "إن من شأن الاستمرار في نمط تحقيق الموارد الحالي أن يقود إلى وضع غريب، إذ إنه بدلا من أن يكون لإسرائيل جيش قوي، فإنه سيكون هناك جيش قوي، لكن من دون دولة إسرائيل " أي أن الجيش سيبتلع الدولة (!).
          إذن هل يمكن الاستنتاج أن الصراع العربي- الإسرائيلي هو ما أطلق وحش السلاح من قفصه ليلتهم ثروات معظم الوطن العربي؟.
           يقول المؤلف: "الحقيقة المرة التي تواجهنا للوهلة الأولى هي أن حوالي نصف البلدان العربية التي يشكل حجم إنفاقها العسكري أكثر من 56 بالمائة من جملة الإنفاق العسكري العربي خلال العقدين الماضيين، هي بلدان لا يحيط بها سوى بلدان عربية أخرى، ولذا فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو أن جزءا كبيرا من العبء العسكري العربي موجه أساسا إلى بلدان عربية أخرى، وأن الصراعات العربية- العربية وسباق التسلح العربي- العربي يشكلان عاملا مهما في تفسير تطور الإنفاق العسكري في الوطن العربي، أو على الأقل فإن غياب مفهوم الأمن العربي الموحد أو السياسات التنسيقية بين البلدان العربية يؤدي إلى هدر كبير للموارد الاقتصادية".
          ويقول أيضا: لقد فاقت معدلات نمو الإنفاق العسكري في الوطن العربي معدلات نمو الدخل القومي ومعدلات نمو التكوين الرأسمالي الثابت لكل البلدان العربية، إن هذا يحدث في وقت لا تزال معدلات الأمية بين الكبار في الوطن العربي تتجاوز 44 بالمائة، وبين النساء تصل إلى 56 بالمائة، ومعدلات وفيات الأطفال تقارب 70 لكل ألف طفل مقارنة مع 8 بالألف في الدول الصناعية، و35 بالألف في دول شرق آسيا ولايزال قطاع واسع من الشعب العربي يفتقد الحاجمات الأساسية، مثل توافر مياه الشرب النقية ووسائل التصريف الصحية الحديثة والكهرباء، وكذلك عدم كفاية الخدمات الصحية الحالية للحاجات المتزايدة، ولو أخذنا مؤشرا واحدا لذلك وهو عدد الأشخاص لكل طبيب لوجدنا أن المتوسط للوطن العربي في منتصف الثمانينيات كان 3700 فرد لكل طبيب، في مقابل 450 فردا لكل طبيب في الدول الصناعية و2400 فرد لكل طبيب في دول شرق آسيا، و1230 فردا لكل طبيب في دول أمريكا الجنوبية (!). وإذا كان هذا العالم يشكو من نقص في الأطباء وفي المعلمين فإنه بالتأكيد لا يشكو من نقص في المدافع التي تحولت بفضل مهارة الجنرالات إلى وجبة شعبية (!).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق