الاثنين، 27 فبراير 2012

الطاغية.. والأغلبية الضالة

مجلة العربي، الأربعاء 1 يوليو 1998  7/3/1419هـ /العدد 476

الديمقراطية تفرز نقيضها والاغتصاب يصير شرعياً  

        حاكم مدينة واشنطن العاصمة الأمريكية ماريون باري اعتقله رجال مكتب التحقيق الفيدرالي في أحد فنادق العاصمة التي يحكمها وهو يقوم بتعاطي المخدرات، سبق الاعتقال تصوير فيلم بالفيديو للحاكم وباتت وثيقة أثناء المحاكمة. وليس تعاطي المخدرات هو التهمة الوحيدة ضد الحكام، فهناك الرشوة والفساد وقائمة سوداء تجعل من واشنطن عاصمة الجريمة، ومع ذلك، فقد أعاد أهالي واشنطن ومعظمهم من الأمريكيين الأفارقة انتخاب ماريون باري حاكما.. انتقاماً من البيض.
        الانتخابات الديمقراطية بدل أن تردم الهوة العرقية بين أفراد المجتمع فعلت النقيض وقامت بتكريسها.
"آل شيشي" وشركاه
        "اسمي هو آل شيشي وسوف أكون الحاكم المقبل لولاية كاليفورنيا" هذا ما قاله المرشح الأمريكي من أصل إيطالي على شاشة التلفزيون، وهو يقدم نفسه بثقة عالية أمام مؤتمر الحزب الديمقراطي، وفي كلمته أمام المؤتمر تكررت كلمة "الديمقراطي" حوالي ثلاثين مرة كما لاحظ تقرير لمجلة "الأيكونوميست" البريطانية، والسبب، كما يقول التقرير، أن المرشح باسم هذا الحزب، كان خلال الحملات الماضية يدفع التبرعات للمرشحين الجمهوريين، أكثر من ذلك، أن السيد شيشي، لم يكن يهتم بالانتخابات كثيرا فهو من أصل ست دورات انتخابية لم يقترع سوى مرتين فقط، فقد كان مشغولاً بمضاعفة أمواله، وبالطبع إن النجاح في تكديس ثروة كبيرة هو فضيلة رأسمالية، ولعلها الفضيلة الرئيسية التي يعتقد السيد شيشي أنها سوف تفتح أمامه قلوب الناخبين لأنه رصد لحملته الانتخابية مبلغ 50 مليون دولار على الأقل، وفق تقرير المجلة. ومع ذلك فإن معركته لن تكون سهلة لأن المنافس الرئيسي له هو السيدة جين هارمان، وهي انتخبت ثلاث مرات عضواً في مجلس الشيوخ، وهذا بالتأكيد ليس رصيدها الوحيد، فهي تملك ثروة تقدر بحوالي 20 مليار دولار، ولكن الأهم من هذا هو أنها متزوجة من مليونير يملك مئات الملايين من الدولارات، ولعل هذا ما يقلق السيد شيشي الذي يعترف بأن كثيرين في كاليفورنيا لم يتعرفوا عليه إلا عندما بدأ يظهر على شاشة التلفزيون، وبإعلانات يصل ثمنها إلى 350 ألف دولار في الدقيقة الواحدة.إن الديمقراطية الإعلانية تمنح النخبة لا الشعب مفاتيح الحكم.
الحقد عندما ينتخب
        الهند هي أعرق ديمقراطية في آسيا، عدد سكانها يقترب من المليار، بعد أن انفصلت عنها كل من باكستان وبنجلاديش لتشكيل جمهوريتين إسلاميتين. الهندوس في الهند يشكلون 80 بالمائة من السكان، أما المسلمون فتصل نسبتهم إلى 14 بالمائة "حوالي 135 مليوناً" يضاف إليهم أقلية مسيحية 2 بالمائة، وأقلية من السيخ 2 بالمائة أيضاً. في الانتخابات البرلمانية الأخيرة اختار الناخبون الحزب الهندوسي القومي، فحصلوا على الأغلبية، أبرز وعود مرشحي هذا الحزب الذين تم انتخابهم على أساسها هو أن حكومتهم سوف تقوم ببناء معبدهندوسي فوق أنقاض مسجد "بابري" الذي هدمه الهندوس المتطرفون في عام 1992.
        يقول تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" إثر الانتخابات إن "التراث" كان الناخب الأول، وهذا التراث يقول إنه منذ العام 1947 وقعت بين الهندوس والمسلمين حوالي ثمانية آلاف معركة واشتباك، وأن 12 مليون هندي تم تهجيرهم ما بين الهند وباكستان، عندما أعلنت انفصالها، وأن 200 ألف سقطوا خلال حرب الانفصال "ولعل هذا الرقم يبدو متواضعا إذا قارناه بحوالي مليوني قتيل سقطوا خلال حرب انفصال بنجلاديش من باكستان".
        إذن، فغالبية الناخبين في الهند، اختارت، وعبر انتخابات ديمقراطية، أن تتخلى عن تسامحها التاريخي، وأن تمنح السلطة لحزب يهود الأقليات الباقية مع أن مهمة الديمقراطية هي أن تقوم بحماية الأقليات، باعتبارهم جزءاً من المجتمع المدني، الديمقراطية الانتخابية هنا تكرس الأحقاد التاريخية بدل أن تلغيها، ويلعب الناخبون عن قناعة دور "الأغلبية الضالة".
نعم للحزب الواحد
        أوكرانيا هي جمهورية سوفييتية سابقة، حصلت على استقلالها عام 1991، وهي رحبت بهذا الاستقلال، وانتخبت "ليويند كوش" رئيساً, وما فعله هذا الرئيس هو أنه ضرب الرقم القياسي في نهب المال العام وتوزيع خزينة الدولة مغانم على جماعته إلى حد أن البنك الدولي قام بتصنيف أوكرانيا باعتبارها في "قاع" الدول المنكوبة، ومستوى الحياة فيها أكثر سوءاً مما هو عليه حتى في ألبانيا، الديمقراطية الانتخابية التي مارسها أهل أوكرانيا حملت إليهم الإفلاس التام إلى حد أنهم لم يعودوا يملكون ما يصدرونه أكثر من.. الفتيات، وما يهددهم فعلاً هو أن الحكومة مضطرة إلى بيع جميع المرافق الرئيسية من كهرباء ومواصلات وطاقة إلى من يرغب، وحتى الآن فإن روسيا هي الزبون المحتمل، وفي استطلاع لمؤسسة "غالوب" العام الماضي، قال 79 بالمائة من أهل أوكرانيا إن حياتهم كانت أفضل أيام الحزب الواحد، وعندما كانوا جزءاً من الاتحاد السوفييتي، وقال 32 في المائة منهم إنهم يفضلون العودة للاتحاد مع روسيا. الديمقراطية الانتخابية في هذا النموذج تريد العودة إلى الحزب الواحد.. وإلغاء الانتخابات.
الأسود ينتخب السيد الأبيض
        البرازيل، المكسيك والأرجنتين، جميعها دول ديمقراطية في أمريكا اللاتينية، ولكن نظرة نلقيها على هذه الديمقراطيات التي كان يحكمها الجنرالات لفترة طويلة تكشف أن الانتخابات الديمقراطية بدل أن تنهي أوضاعاً لا إنسانية وشاذة، إنما تقوم بمهمة معاكسة هي تكريس هذه الأوضاع، ولنأخذ البرازيل مثلاً.
        البرازيل تضم 164 مليون نسمة، تقول الإحصاءات الرسمية إن من بين هؤلاء يشكل البيض 53 في المائة، أما السود والمالتو "المنحدرون من عروق مختلفة" فتصل نسبتهم إلى 45 في المائة، والاثنان في المائة الباقية هم من الآسيويين أو الهنود الأصليين، أما الاحصاءات غير الرسمية فإنها تؤكد أن الأغلبية هم من غير البيض.
        ويصنف صندوق النقد الدولي البرازيل باعتبارها الدولة الصناعية الأولى في أمريكا اللاتينية، حيث تصل نسبة أهل المدن إلى ما يزيد على 70 في المائة من عدد السكان، ومع ذلك فإن التركيبة السياسية في هذا المجتمع المدني المتقدم لا تعكس التركيبة العرقية السكانية وتكشف عن ظلم هائل يقع على كاهل السود والملونين، إذ إن البيض يحتلون البرلمان والحكومة ويسيطرون على الإعلام، وباستثناء وزير الرياضة، أديسون آرنتي دونا سيموتو وهو نجم كرة القدم "بيليه" فإن السلطة التنفيذية.. بيضاء، وفي الانتخابات التشريعية التي تحتاج إلى حملات انتخابية مكلفة فإن السود أنفسهم لا يقومون بانتخاب السود، كما يقول تقرير لوكالة "جيميني" إلا إذا توافر للمرشح الأسود أو الملون من يدعمه في صفوف النخبة السياسية البيضاء، وبالتالي فإن الانتخابات تكرس هذه الهيمنة البيضاء بدل أن تضعفها أو تلغيها، وتمنحها مظلة ديمقراطية تحكم في ظل شرعيتها، وتتمدد عبر جميع أجهزة الدولة، وخاصة في أجهزة الأمن والشرطة التي تتعامل مع السود باعتبارهم "يشكلون خطراً على المجتمع" كما يؤكد العقيد السابق بالشرطة خورخي دي سيلفا، وهو أسود، في آخر كتاب صدر الشهر الماضي، ويحمل عنوان "العنف والعنصرية في ريو دي جانيرو"، والمفارقة التي يكشف عنها كتاب الضابط الأسود هي أن الأسود أو الملون يعتبر أن انتخاب الأبيض هو دليل رقي "!".
عواطفنا غلبت علينا
        "إن عواطفنا تغلبت على عقولنا.. ونحن نجازف بتعريض قيم فرنسا وسمعتها للخطر" قالها الرئيس الفرنسي جاك شيراك، بعد إعلان نتائج الانتخابات الإقليمية في فرنسا في مارس الماضي.والرئيس كان على حق، فرنسا هي ملهمة الديمقراطيات الأوربية وهي أول من وضع شعار "حرية، إخاء، مساواة" موضع التطبيق، ومع ذلك فإن الفرنسيين منحوا "الجبهة الوطنية" بقيادة جان ماري لوبان فوزاً مؤكدا جعل الجبهة تتحكم في انتخاب الرؤساء في 20 إقليما من أصل 22 إقليما "عدا ما وراء البحار"، بحيث استحق رئيسها لقب "صانع الملوك".
        "الجبهة الوطنية" هي نسخة فرنسية من الفاشية الإيطالية، ورئيسها لوبان لا يقبل بأقل من طرد كل "الغرباء" من فرنسا، وفي طليعتهم 4 ملايين فرنسي من أصل عربي، وإقفال الحدود أمام أي لاجئين جدد، ثم توسيع صلاحيات قوات الأمن، على حساب الحريات الفردية، لمقاومة انتشار الجرائم وصولاً إلى حكم الحزب الواحد. وقد لخص رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق لوران فابيوس، هذا الجحيم المقبل الذي اختاره الفرنسيون، بعبارة واحدة "إن أسوأ ما حدث هو أنه تم كسر المحرمات"، وهذه المحرمات، كما هو معروف، ما إن تكسرها أول مرة حتى تكسرها في كل مرة.
        حتى الديمقراطيات الغربية العريقة تواجه هذا الخلل الذي يكاد يخلق نقيضها، أو يجعلها "تحفر قبرها بيديها" وفق العبارة الشهيرة.لماذا، وهل هناك حلول، أليست الديمقراطية هي أفضل علاج لأمراض الديمقراطية؟
تعذيب واغتصاب وتواطؤ
        تركيا جمهورية ديمقراطية، عدد سكانها يقترب من 64 مليون نسمة، 99 في المائة منهم مسلمون، يتوزعون عرقياً بين الأتراك 80 في المائة والأكراد 19 في المائة وأقليات أخرى بينها عرب لواء الأسكندرون، ولديها 639 ألف جندي وضابط يقومون بالخدمة الفعلية.
        تركيا تنتخب ممثليها في البرلمان وفي البلديات وسواها، أي أنها تمارس الديمقراطية الانتخابية، والناخب التركي منح حزب "الرفاه" الأغلبية في الانتخابات الأخيرة، ثم أعلن حل الحزب وتقديم رئيسه، رئيس الوزراء السابق نجم الدين أربكان إلى المحاكم.
        حزب الرفاه ليس هو الموضوع هنا، بل مسألة فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، بقطع النظر عن الحزب الحاكم. وهنا نموذج لما يمكن أن يحدث في تركيا، أو في سواها من الدول الإفريقية وأمريكا اللاتينية، عندما ينهار هذا الجدار الفاصل بين السلطات في الأنظمة البرلمانية.
        تدور حالياً رحى حرب ضروس، معروفة النتائج سلفاً, طرفها الأول 12 طالبا وطالبة لا تزيد أعمار بعضهم على 14 عاما، ومعهم أستاذهم وعمره 28 سنة، وطرفها الثاني الشرطة التركية، أما الحكم الفاصل بين الطرفين فهو القضاء.
        وفي تفاصيل القضية أن الشرطة التركية اعتقلت في منطقة "مانسيا" التركية المطلة على بحر إيجه، ما أطلقت عليه "خلية إرهابية ماركسية قامت بأعمال تخريب ويستعد أفرادها للقيام بأعمال مسلحة تهدد النظام" وكانت الخلية تضم 15 طالباً وطالبة ومعهم الأستاذ المذكور.
        المتهمون، وهم جميعاً من الأتراك وليس من الأكراد ـ قالوا إن الشرطة عندما اعتقلتهم، نقلتهم إلى الطابق الرابع من مقر القيادة في مانسيا، وهناك وعلى مدى أسبوع ونصف الأسبوع تعرضوا للتعذيب بالكهرباء، وللاغتصاب الجنسي، وللضرب كي يعترفوا، وفي النهاية اعترفوا، وكانت معالم التعذيب ظاهرة عليهم جميعاً "!"
        المحكمة أصدرت أحكاما بالسجن على 12 من هؤلاء الإرهابيين الصغار وبرأت ثلاثة متهمين.
         كيف؟ محامي الدفاع عن الشرطة تقدم بإفادة وقعها 11 طبيبا و8 ممرضات ينتمون إلى أربع مؤسسات طبية يشهدون فيها أنه بعد أن قاموا بفحوصات شاملة على جميع المتهمين تبين لهم أنهم بأحسن حال وأن أحداً منهم لا يحمل أي آثار ناتجة عن التعذيب.
        القاضي بدوره لم يشاهد آثار التعذيب على المتهمين، ولم يستمع إلى محاميهم عندما أشار إلى أن الشرطة في مانسيا سحبت رخصة طبيب ومنعته من مزاولة مهنته، لأنه أعطى إفادة تقر بوجود آثار تعذيب على أحد المتهمين في قضية أخرى، بينما امتنع القاضي تماماً بما قالته الشرطة من أن أحد المتهمين كتب شعارات سياسية على أحد الجدران، بينما اعترفت إحدى المتهمات بأنها كتبت "قصائد ثورية" في أحد دفاترها المدرسية.
        هذه نماذج فقط من تجارب شعبية تغطي جميع القارات، ويمكن أن نضيف إليها عربياً التجربة الجزائرية وفوز جبهة الإنقاذ في انتخابات العام 92، مما فجر موجات عنف لم تعرفها حتى المجتمعات البدائية وليس الديمقراطية، ومثلها التجربة الديمقراطية اللبنانية، وهي أكثر التجارب عراقة وازدهاراً، وقد انتهت بعد الحرب الأهلية بأحزاب طائفية، وكذلك تجربة السودان، والمهم في هذه التجارب أن الديمقراطية كما تمت ممارستها خلفت نقيضها، وبدل أن تساعد على دعم وتعزيز المجتمع المدني فإنها تساهم في تمزيقه، فأين هو الخلل إذن، في الديمقراطية نفسها، أم في الناخب، وحسب ما يقول المثل "المغني وليس الأغنية"؟.
لا للانتخابات.. نعم للاستيراد
        هذه الأسئلة كانت موضوعاً لحوار متعدد الأطراف شارك فيه كل من مدير تحرير مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية فريد زكريا، والمدير المساعد للمركز الدولي للدراسات الديمقراطية مارك بلاتذ ومساعد وزير الخارجية الأمريكي للشئون الديمقراطية وحقوق الإنسان جون شاتوك ومدير لجنة التنمية الدولية الأمريكية بريان أتوود، وقد بدأ الحوار بدراسة نشرها زكريا في "فورين أفيرز" ذات السمعة الدولية، وقد جاءت الدراسة تحت عنوان "صعود الديمقراطية غير الليبرالية"، وطرح فيها فكرة جريئة تقول إن على الولايات المتحدة أن تنهج سياسة تقوم على دعم الديمقراطيات القائمة التي تحترم الحريات المدنية وحكم القانون والفصل بين السلطات، بدلاً من سياستها الحالية القائمة على دعم الانتخابات الديمقراطية، لأن هذه الانتخابات في غياب المؤسسات الليبرالية، سوف تؤدي إلى ديمقراطية غير ليبرالية، تقوم على التعصب الوطني وصراع الاثنيات "عرقياً أو دينياً" ثم.. الحروب في الداخل أو مع الجوار، ويقترح زكريا بالتالي أن تقوم سياسة الولايات المتحدة على دعم "الأوتواقراطية الليبرالية"، والأوتوقراطية كما يعرفها القاموس هي الحكم المستبد، أو حكم الفرد، ومع أن هذا الفرد لم يصل إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية، إلا أنه في حال أثبت أنه يحترم حقوق الإنسان فمن الواجب دعمه.
        وزكريا في هذا الوصف للأوتوقراطي يجعل منه شيئاً أشبه بما يسميه عبدالرحمن الكواكبي "المستبد العادل"، وهو يعتبر أن هذا المستبد، ونظرا لتحرره من جماعات الضغط السياسية يملك حرية أكبر في دفع التنمية الاقتصادية من نظيره المنتخب، وبالتالي فإن وجوده يمهد الطريق للديمقراطية الليبرالية التي تعتمد على الانتخابات.
        ويرى زكريا أن أفضل نموذج على هذا هو "هونغ كونغ" حيث تزهو الليبرالية في غياب الديمقراطية.
المؤسسات الأخرى لحماية الحريات
         في مقال مشترك بين جون شاكوك وبريان آتووك، يرد الكاتبان على هذه الدعوة، فيشيران إلى ثلاثة مواقع للتحلل فيها فهي أولاً تخطئ في فهم طبيعة المساعدة الديمقراطية التي تقدمها الولايات المتحدة، وتعتبر أن هدفها الوحيد هو تسويق الانتخابات، وهي تقلص ثانيا من حجم الانتهاكات التي ترتكبها هذه "الأوتوقراطية الليبرالية" وهي ثالثا تستخدم أمثلة، هي موضع شك للبرهنة على أن الديمقراطية تزيد بدل أن تقلص من الأزمات الاجتماعية.
         ويشير الكاتبان إلى أنه خلال العقد الأخير من هذا القرن، فإن قوى عديدة في وسط أوربا، وفي أمريكا اللاتينية، ومناطق من إفريقيا وآسيا دفعت حكوماتها إلى الافساح في المجال لمزيد من الديمقراطية والحقوق السياسية والانتخابات الحرة، وقد دعمت الدبلوماسية الأمريكية هذا التوجه، ولم تشجع فقط على إجراء الانتخابات، بل ساهمت أيضاً في الدفع باتجاه قيام مؤسسات تشريعية وقضائية وتنفيذية وإعلام حر، ونقابات عمالية بالإضافة إلى تشكل قوس واسع من الجمعيات الأهلية وذات النفع العام، وهذه كلها مؤسسات رئيسية لحماية الحريات الأساسية، والأقليات الدينية والعرقية، بما يجعل من صنع القرار في هذه الدول محكوماً بالقوانين وليس بالمزاج، وهو ما يوفر فرصاً أكبر للاستقرار الاجتماعي وآلية عمل موثوقة لحل الازمات.
         ويعتبر الكاتبان أن الانتخابات هي جزء فحسب من عملية تنمية الثقافة الديمقراطية وتعزيز المجتمع المدني.
الموجة الثالثة
         وفي مقال تحت عنوان "الليبرالية والديمقراطية لا يمكن أن تحصل على واحدة دون الأخرى" يرد مارك بلاتنر على زكريا فيشير إلى حالة العالم قبل ربع قرن حيث كانت الديمقراطية الليبرالية تكاد تقتصر على دول أمريكا الشمالية وغرب أوربا، حيث كان لدى هذه الدول اقتصاد صناعي متقدم ونسبة عالية من المتعلمين وطبقات متوسطة ذات أغلبية واسعة. وهذه كلها عوامل، كما يرى علماء السياسة، ضرورية لقيام أي ديمقراطية ناجحة.. ولكن منذ التسعينيات تغير المشهد، فإذا بكثير من الأنظمة المستبدة يتهادى ليأخذ مكانه أنظمة تستوحي النموذج الديمقراطي وليظهر ما يسميه صامويل هنتيجتون "الموجة الثالثة" من الديمقراطية السائدة اليوم.
         ويضيف بلاتنر: إلا أن هناك دولاً عديدة بما فيها تلك الدول التي تعقد انتخابات حرة ونزيهة وواضحة، تكاد تعجز عن حماية الحريات الفردية، والاعتماد على حكم القانون وحده كما هي الحال في الديمقراطيات العربية، وكما يقول المفكر لاري دياموند: فإن العديد من هذه الأنظمة الجديدة يصلح أن نسميه "الديمقراطية الانتخابية" وليس الديمقراطية الليبرالية.
         ويستنتج هنتيجتون من هذا أن الانتخابات في دول ليست غربية قد تؤدي إلى انتصار القوى المعادية لليبرالية، وهو ما يستند إليه زكريا في دعوته.
         وبعد أن يبحر بلاتنر في تاريخ الديمقراطية التي هي حكم الشعب بالشعب، وإلى مفهوم المساواة بين الناس، وبالتالي حق الجميع بالحكم باختيار الحاكم، يصل إلى سؤال طرحه من قبل المفكر جون ستيورات مل، وهو: ماذا نفعل بالناس الذين يفشلون في ممارسة الديمقراطية؟ وبينما أجاب ستيوارت مل على السؤال بالدعوة إلى استعمار هؤلاء الأقوام "الانتداب" لتأهيلهم، فإن الاجابة اليوم أكثر صعوبة.ويوافق بلاتنر على أن الديماجوجيين يستطيعون أن يستغلوا الحملات الانتخابية لمخاطبة غرائز الناخبين بما فيها القبلية والدينية، ولكن هذا لا يعني أن الأوتوقراطي المستبد يعف عن هذا، خاصة في إفريقيا، فهو يحكم عبر استخدام فريق ضد آخر.
         وينتهي إلى القول: صحيح أن هناك اليوم دولاً عديدة تفتقد  وجود الشروط المسبقة لقيام الديمقراطية وهي المؤسسات الليبرالية، ولكن يبقى من واجبنا دعم هذه الدول على تحسين أنظمتها الانتخابية لأنه في نهاية المطاف فإن الطريق إلى الديمقراطية لا يمر عبر المستبد الليبرالي بل عبر الحكومات المنتخبة.
العودة إلى.. الطاغية
         يقول الفيلسوف اليوناني أرسطو في كتاب السياسة: "يتمثل الطغيان بمعناه الدقيق في الطغيان الشرقي. حيث نجد لدى الشعوب الآسيوية ـ على خلاف  الشعوب الأوربية ـ طبيعة العبيد، وهي لهذا تتحمل حكم الطغاة بغير شكوى أو تذمر".
         ولعل دعوة فريد زكريا دول الغرب، وفي طليعتها أمريكا إلى دعم، وليس القبول فحسب، المستبد سواء كان فرداً أو حكومة، تقوم على هذه القناعة الأرسطوية. غير أن زكريا يضيف إفريقيا وأمريكا اللاتينية إلى الآسيويين.
         ومع أن الوقائع التاريخية تشجع على حمل قناعة من هذا النوع، خاصة إذا قرأنا كتاب "الطاغية" وقد صدر عن سلسلة عالم المعرفة في الكويت عام 1994 لمؤلفه الدكتور إمام عبدالفتاح إمام، إلا أننا مع ذلك، لا نملك إلا أن نتفق مع الدكتور إمام، وهو من روى بالتفصيل تاريخ هذا الطغيان الشرقي بالذات، وصولاً إلى العصر الحاضر، لا نملك إلا أن نتفق معه عندما يسأل في مقدمة كتابه "كيف نحمي أنفسنا من الطغاة؟" ويجيب: لقد عرضنا النموذج الذي اتبعته الدول الأوربية ـ والغربية بصفة خاصة ـ التي تخلصت من الطاغية، وهذا النموذج يتلخص بكلمة واحدة: "الديمقراطية".
         وإذا كان كثيرون يشكون من خروج المتظاهرين في أغسطس العام 1990 إلى الشوارع العربية دعماً للطاغية صدام حسين، فإن هؤلاء ربما يجدون عزاء في انتصار الفاشيست حتى في فرنسا "حيث غلبت العاطفة على العقل" كما يقول الرئيس شيراك، وبالتالي، ربما كنا مع الفرنسيين في مركب واحد، وما يصح ويصلح كعلاج لعواطفهم الانتمائية يصلح لنا وما يفرقه الطاغية تجمعه الديمقراطية. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق