الاثنين، 27 فبراير 2012

يخوضون حروبا لتغيير التاريخ: الطغاة يجهلون الجغرافيا

مجلة العربي، الثلاثاء 1 سبتمبر 1998  10/5/1419هـ /العدد 478

"لولا الحصان الغربي لكانت أوربا كلها اليوم تقرأ القرآن ولكان جميع رجالها مختونين".. العبارة للمؤرخ جيبون, أطلقها تعليقا على معركة "تور" وقد وقعت بين المسلمين والأوربيين في العام 732 للميلاد. وكما أن هذا الحصان الأوربي كان مسئولا عن الانتصار في تلك المعركة, فإنه كان مسئولا أيضا عن الهزيمة التي لحقت بجيوش الصليبيين على يد القائد صلاح الدين في معركة حطين.
          ويقول المؤلف الأمريكي دافيد لاندس في تفسير هذا "اللغز" إن المناخ المعتدل سهل للأوربيين أن يتركوا مساحات شاسعة من الأراضي تغطيها الغابات والمراعي, فهم لم يكونوا يحتاجون إلى زراعتها, وبالتالي فإن مواشيهم كانت ترعى في الأماكن القريبة, وكانت تنمو بأحجام كبيرة, خلافا للمواشي في الأراضي الأقل خصوبة كالحصان العربي مثلاً والمنغولي والتتري فقد كان أصغر حجما.
          وفي الوقت نفسه, فإن لكل من الحجمين ميزاته, فالتتر أو المنغول يمكنهم أن ينطلقوا بسهولة في سهوبهم الواسعة, يغيرون ويضربون بسرعة وحسم السكان المقيمين حولهم. أما الحصان الأوربي, فهو قادر على أن يحمل فارساً مدججا بالدروع, ليتحول إلى دابة حية, تصعب مقاومتها في الهجوم, وتصعب هزيمتها في الدفاع.. إن الفرق بين هذين النوعين من التكتيك هو ما فتح الباب أمام المعارك الكبرى في التاريخ, ففي عام 732م قام شارل مارتيل, جد شارلمان, بقيادة جيش من الفرسان ضد الغزاة العرب قرب "تور" ووضع بذلك حداً للتوسع العربي الذي بدا أنه لا يقاوم. وبعد حوالي 450 عاماً, في عام 1187 فإن فرسان صلاح الدين المسلمين تركوا الفرسان الأوربيين ينحدرون لمهاجمتهم في قرن حطين, وانتحوا جانباً في اللحظة الأخيرة ليمنحوهم فرصة العبور, لقد كانت خيول الصليبيين, حينئذ, حملت فرسانها طيلة اليوم, تحت الشمس الحارقة, وكانت منهكة, ولم يكن على الفرسان المسلمين إلا أن يطبقوا عليهم ويقطعوا من المؤخرة خطوط إمداداتهم, ليضعوا بذلك نهاية لمملكة القدس الصليبية.

من يحكم النهر ؟
          هذه الحكاية يرويها كتاب صدر في الولايات المتحدة أخيرا وخصصت مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية الرصينة ست صفحات لعرضه ونقده, وهو يحمل عنوان "ثروة الأمم وعوزها: لماذا بعضها غني جداً وبعضها فقير جداً" ومؤلفه هو المؤرخ وعالم الاقتصاد دافيد لاندس,  وعنوان الإجابة هو: فتش عن الجغرافيا, فهي تصنع التاريخ وتصنع الحضارة أيضاً, وفي هذا السياق يطرح المؤلف نظرية متكاملة تقول إن الطاغية يخرج من الشرق, أما غرب أوربا فهو مهد الديمقراطية, والتعددية لأسباب.. مناخية "!".
          يقول أيضاً إن الأنهار هي مهد الحضارات: النيل والحضارة الفرعونية, ومثله الفرات ودجلة.. ومن يتحكم بالنهر يحكم البلاد والعباد, ولأن منسوب الأنهار ينخفض أو لأنها تفيض فهي تحتاج إلى إقامة سدود عملاقة لا يمكن أن يتم بناؤها إلا على أيدي عمال السخرة أو العبيد, ومن هنا يصبح وجود الطاغية.. ضرورة للعيش "!".
          ولا يعتبر لاندس أن الجغرافيا قدر محتوم, فالتكنولوجيا والطب والاختراعات الحديثة قادرة على تقليص تأثير الجغرافيا, و"اختراع مكيفات الهواء ساعد على تحرير العبيد في الجنوب الأمريكي".
          والمؤلف في النهاية يعلن تفوق الغرب, وهو بالتالي يلغي ما ذهب إليه صامويل هينتغتون عن صراع الحضارات, فهناك الغرب في مواجهة كل ما عداه. وهو يعترف أن هذه النظرية تبدو عنصرية ولكنه يعتبرها واقعا, أما في حديثه عن المسلمين والحضارة الإسلامية فهو يخطئ مرتين: مرة عندما ينسب إلى الإسلام سلوك بعض المسلمين ـ العرب خاصة ـ وموقفهم من المرأة باعتباره موروثاً دينياً ومرة عندما يرى في أصوليي الجزائر نموذجاً للإسلام في حالته الراهنة.
          وفي كل الأحوال فإن الكتاب مستفز وهو يقع في 650 صفحة, وربما يدفعنا إلى مواجهة الجغرافيا كي لا نبقى ضحايا أبدية.. للتاريخ.

فرشاة عنصرية
          بداية يقول لاندس إن الجغرافيا تحمل سمعة سيئة, البروفيسور ايلسوورث هانتيغتون وتلاميذه منحوها هذه السمعة, فهم خلال دراستهم لتأثير الجغرافيا, وخاصة عوامل المناخ, على التنمية البشرية, كادوا يجعلون من الجغرافيا المسبب الأول في كل شيء, بدءاً من التحركات الفسيولوجية وصولاً إلى الثقافة.
          ومع قناعة من هذا النوع تتحول الحضارة إلى ما يشبه علم السلالات أو الوراثة. البروفيسور كان أستاذاً في جامعة "يال" وليس مصادفة أن يمنح الجغرافيا هذا القدر من الأهمية, فالجامعة تقع في نيوهاتن في ولاية "كو نكتكيت" ويسودها أفضل مناخ في العالم, وبالتالي فإن الحضارة تبدأ منها ثم.. تنحدر, وصولاً إلى المناخ الاستوائي حيث الملونون.
          الجغرافيا بهذا المعنى تبدو أخلاقية وعنصرية, ومع ذلك, فإن كثيرين من الأمريكيين الأفارقة يقبلونها, فهناك الأسود الضاحك وهو من "أهل الشمس" ويقابله الأبيض الجامد وغير الإنساني وهو من "أهل الجليد".
          "إن الجغرافيا تم طلاؤها بفرشاة عنصرية ولا أحد يريد أن يتلوث بها" ومن هنا, فعندما ألغت جامعة هارفارد قسم دراسات الجغرافيا, وتبعتها جامعات أخرى, فإن أحداً لم يحتج, فالمشكلة مع الجغرافيا هي أنها تكشف عن حقيقة محزنة وهي أن الحياة مثل الطبيعة غير عادلة ولا تعتمد المساواة بين الناس, أكثر من ذلك, فإن هذا الظلم ليس من السهل تقويضه.
          وهذه الجغرافيا باختصار, وكما يصفها طبيب, هي: إنها ليست مثل أنواع التاريخ الأخرى, لأن الباحث فيها قد يتحمل مسئولية النتائج التي يتوصل إليها, كما يتحمل مذيع نشرة الأحوال الجوية مسئولية الطقس الغائم أمام واحد يحلم بالذهاب إلى الشاطئ للسباحة.

الطقس أولاً
          ويمكن اختصار أفكار دافيد لاندس حول الطقس والمناخ كالتالي: إن عوامل المناخ تحمل تأثيراً مباشراً على جميع أنواع السلالات الحية, وفي برد الشتاء الشمالي فإن بعض المخلوقات يلجأ ببساطة إلى "البيات الشتوي", وفي المناخ الحار, وفي صحارى بلا ظلال, فإن الأفاعي والزواحف تبحث عن الرطوبة تحت الصخور, أو داخل التربة ذاتها, لهذا السبب فإننا نجد أن معظم المخلوقات في الصحارى هي من نوع الزواحف. فالإنسان عادة يتجنب كل ما هو متطرف, سواء في الحرارة أو في البرودة, وكثيرون من الناس يرحلون عبر المناطق الحارة ولكنهم لا يمكثون فيها, إن الطمع وحده: اكتشاف الذهب أو النفط أو مقتضيات البحث العلمي هي ما يدفع إلى تجاوز وكسر هذا الرفض العقلاني للمكوث في مناطق من هذا النوع.
          ومع أن صفة التطرف يمكن أن تنسحب على الحرارة, كما على البرودة, فإن المتاعب والمضايقات الناتجة عن الحرارة تختلف عن تلك الناتجة عن البرودة, فالإنسان في مواجهة برودة الجو يرتدي الثياب الدافئة, يبني أو يبحث عن ملجأ أو مخبأ أو يشعل النار, وهي طقوس وتقنيات تغور عميقا عبر آلاف السنين, كما أنها السبب في انتقال الحياة البشرية من موطنها الأصلي في إفريقيا إلى أجواء ومناخات أكثر برودة واعتدالاً.
القيلولة.. والعبودية
          إذن, فإن أفضل حل لهذه المشكلة هو عدم انتاج الحرارة, وهذا يعني أن يبقى الإنسان ساكناً, لا يقوم بأي عمل, وهذا النوع من التأقلم مع الجغرافيا والمناخ أفرز نظام "السييستا" ـ القيلولة ـ وهو نظام مصمم كي يجعل الناس غير فاعلين في وقت الظهيرة, وفي زمن استعمار بريطانيا للهند, انتشر المثل الهندي "إن الكلاب والإنجليز وحدهم يخرجون في شمس الظهيرة" والهنود في هذا على حق.
          ومن هنا, فإن العبودية تفرض على الآخرين أن يقوموا بالعمل, وليس مصادفة أن نظام العبودية, كان منذ البداية مرتبطا بالمناطق الاستوائية وشبه الاستوائية, وكذلك تقسيم العمل بين الرجل والمرأة, ففي البلاد الحارة كانت المرأة هي من يعمل في الحقول, تحت أشعة الشمس, وفي المنزل. بينما كانت مهمة الرجل هي الحرب والصيد, أي وبلغة العصر, التفرغ لشرب القهوة ولعب الورق وقيادة السيارة, كان الهدف من هذا التقسيم أن يقوم بالعمل من لا يستطيع أن يقول: لا. أي الطرف الأضعف.أكثر من ذلك, فإن الأجواء الحارة عموماً تساعد على إقامة أنظمة معادية للإنسان: الحشرات تتكاثر في المناخ الحار وتحمل معها كل أنواع الأوبئة. إن اصابة واحدة بالملاريا تعني اصابة 90 شخصاً آخرين بالعدوى, ومثلها البلهارسيا التي يصاب بها الإنسان عندما يضطر للعمل في الحقول. أما الشتاء فإنه القاتل الأبيض الصامت, مبيد الحشرات والجراثيم.
الهوة المرعبة.. والإنجاب
          وينتقل لاندس من المناخ إلى الاقتصاد والتنمية, وما يقلقه هو أن الهوة تزداد اتساعاً بين الفقراء والأغنياء, وبالتالي فإن الأغنياء محكومون بتطوير الفقراء.. دفاعاً عن النفس, فهو يسأل: كم يبلغ اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء, وماذا يحدث في عالمنا اليوم؟ باختصار وبشكل عام, فإن الفرق بين دخل الفرد في أغنى دولة صناعية, ولنقل سويسرا, وبين أفقر دولة غير صناعية, ولنقل موزمبيق هو "400" إلى واحد, ولكن قبل "250" سنة كانت مساحة الهوة الفاصلة بين الاثنين لا تزيد على خمسة إلى واحد.
          كما أن الفرق بين أوربا وشرق أو جنوب آسيا "الهند والصين" لم يكن يزيد على واحد ونصف أو اثنين إلى واحد, وهذه الهوة مازالت تزداد اتساعاً, والمشكلة الحقيقية هي أن الفقراء سوف يسعون, كما كانوا يفعلون دائماً, إلى انتزاع ما يعجزون عن صنعه, وإذا كانوا لا يستطيعون تأمين موارد لهم عبر تصدير البضائع فإنهم سوف يصدرون البشر, وباختصار فإن الثروة هي مغناطيس جاذب تصعب مقاومته, والفقر يفيض ولا يمكن حصاره أو عزله.
          إن شعوب الأرض تتوزع اليوم بين ثلاثة أنواع من الدول: هؤلاء الذين ينفقون كثيرا كي يخففوا أوزانهم, وأولئك الذين يأكلون ما يكفي ليبقوا على قيد الحياة, ثم أولئك الذين لا يعرفون من أين سوف يحصلون على الوجبة المقبلة, ومتى يحصلون عليها.
          وهذا يستدعي مفارقة كبيرة, إذ بينما يعمل الأغنياء على ضمان شيخوختهم عبر التقاعد والحفاظ على لياقتهم البدنية, فإن الفقراء يحاولون ضمان كهولتهم عبر المزيد من إنجاب الاطفال, على أمل أن يقوم هؤلاء الأطفال بتوفير حياة مريحة لهم في نهاية عمرهم, وبالطبع فإن هذا لا يحدث دائما, لأن إنجاب المزيد من الأطفال, يعني استدامة الفقر وتقصير العمر, وأبلغ دليل على ذلك هو أن المعدل الوسطي لعمر الإنسان في مناطق ودول تتجاوز المليار نسمة هو 56 سنة, أما في المناطق والدول التي تقل عن هذا فيصل معدل الحياة إلى 77 عاماً للفرد.
خطوط الدفاع ضد الجغرافيا
          مع ذلك يرى لاندس أن الجغرافيا ليست قدراً محتوما وأن الانسان في مواجهة الجغرافيا, يخلق دفاعاته, وأبرز المواجهات تقع في حقول التكنولوجيا والطب والمخترعات الحديثة.
          على الصعيد الطبي, يأخذ المؤلف الجزائر مثلا في مواجهتها للملاريا. فهذا الوباء ينتشر في "103" دول, وعدد ضحاياه وصل إلى "270" ألف إصابة في عام 1990. وعندما استعمر الفرنسيون الجزائر حصدت الملاريا الجنود بالجملة. ثم جاء الأطباء من باريس, درسوا الموقف, وربطوا ـ خطأ ـ بين الملاريا والمستنقعات, لذلك قاموا بتجفيف المستنقعات, وهو ما أدى بالطبع إلى اختفاء البعوض, وما بين أعوام 1846 ـ 1866 انخفض عدد الاصابات بالملاريا بين الجنود والسكان أيضاً بنسبة 61 بالمائة.
          إن تجفيف المستنقعات منح بالطبع أراضي جديدة للمستوطنين, ولكنه في الوقت نفسه أنقذ الناس من البعوض الذي يسبب الملاريا, وكرّس الحكمة الذهبية وهي أن درهم وقاية خير من قنطار علاج.
          ويشير المؤلف في هذا السياق إلى أنه في عام 1965 كان معدل الوفيات بين الأطفال هو 146 في الألف, بينها 114 في الهند والصين, أما في عام 1993 فقد انخفضت النسبة إلى 91 في الألف فقط, بينها 79 في الهند والصين.
المسلمون رفضوا الطباعة ؟
          ثم يضيف: "إن غلطة قادة المسلمين الكبرى, في كل الأحوال, هي رفضهم لآلات الطباعة باعتبارها احدى وسائل الهرطقة, إن هذا الرفض هو أكثر ما أبعدهم عن المشاركة في التيار الرئيسي للمعرفة". والغريب أن لاندس لا يشير إلى أي مصدر أو أي حادثة تكشف أن الإسلام يرفض آلات الطباعة, كما أنه ينسب للإسلام سلوكا في منتهى البعد عن جوهر الدين.
          وبعد أن يتحدث المؤلف عن غزو نابليون لمصر, ثم وصول محمد علي إلى سدة الحكم يشير إلى أن أهم من استدعاهم محمد علي من الخبراء الأوربيين كان الفرنسي لويس اليكس جوميل الذي استنبت في مصر وللمرة الأولى في تاريخها, القطن ذا التيلة الطويلة.
          ويرى لاندس أن مصر في عهد محمد علي كانت الدولة المسلمة الوحيدة المؤهلة لدخول عهد الثورة الصناعية, فقد وصلت عدد محالج القطن فيها عام 1834 إلى 400 ألف محلج, وصار باستطاعتها تصدير القطن حتى إلى الهند, وهو ما مكن محمد علي من توفير تمويل ضخم يصرف على تطوير الصناعة والآلة العسكرية, ولكن المشكلة التي واجهته هي افتقاره إلى مصادر الطاقة وأهمها الفحم الحجري لتشغيل الآلات, ومن هنا فإنه استخدم ما يزيد على ألف جاموسة لتشغيل 250 محلج قطن, وهو أمر مكلف, كما أنه غير مضمون. ومشكلة أخرى هي الطاقة البشرية والعمال المؤهلون, وقد استخدم محمد علي في البداية العمال العبيد من دارفور وكردفان, وهؤلاء كانوا يموتون بالجملة, نظراً لظروف العمل اليومية, ثم لجأ إلى عمال السخرة, ينتزعهم من بين أسرهم, وهو ما كان يدفع بعض هؤلاء العمال إلى تشويه نفسه لتجنب الخدمة, أو إلى تخريب الآلة التي يعمل عليها, ثم جاءت الضربة القاضية لهذه الصناعة عندما فرضت بريطانيا على محمد علي مبدأ التجارة الحرة ورفع الحماية عن صناعة القطن.
          ومع ذلك فإن المؤلف يصر على أن ثقافة مصر وتقاليدها نتيجة للجغرافيا لم تكن مؤهلة لقيام دولة صناعية في أيام محمد علي, كما هي اليوم, مع أن من يدخل الصناعة متأخرا يستفيد من أحدث التطورات التكنولوجية, ويصبح قادراً على المنافسة.
نحن نستورد كل شيء
          وليست مصر وحدها بل العرب جميعاً مازالوا غير مؤهلين اليوم للمشاركة في الثورة الصناعية أسوة بأمم الأرض. لماذا؟
          يورد المؤلف دراسة للبنك الدولي صدرت في العام 1960, تحت عنوان "السيطرة على المستقبل "وفيها احصائية تقول إن الدخل الفردي في سبع دول عربية متقدمة وصل إلى 1521 دولاراً في السنة, بينما كان الدخل الفردي في ذلك العام لدول شرق آسيا: تايوان, كوريا الجنوبية, هونغ كونغ, سنغافورة وتايلند وماليزيا لا يزيد على 1456 دولاراً في السنة, أما في عام 1991, فقد تغيرت المعادلة كلها, إذ انخفض الدخل الفردي في الدول العربية المذكورة إلى 334 دولاراً في السنة, مقابل ارتفاع الدخل الفردي إلى 8 آلاف دولار لدى دول شرق آسيا.
          وبينما استقطبت الدول العربية ثلاثة بالمائة فقط من الاستثمارات الأجنبية, فإن حصة دول شرق آسيا وصلت إلى 58 بالمائة من تلك الاستثمارات.
          ويستنتج المؤلف أن الدول العربية عجزت عن تطوير اقتصاد متقدم وأنفقت ثرواتها, كما فعل البرتغاليون من قبل, في استيراد الكفاءات البشرية والخدمات من الخارج, وينقل عن لسان تاجر خليجي: "ماذا يعني أن تكون غنياً؟ إن الغنى يكون في التعليم وفي الخبرة وفي التكنولوجيا وفي المعرفة, نعم لدينا المال, ولكننا لسنا أغنياء, نحن نستورد كل شيء".
الثقافة المعاقة
          ويرى المؤلف أن الثقافة هي أبرز عناوين التخلف العربي, فهي أولاً لا تنتج قوى عاملة قادرة ومجهزة بالمعرفة, وهي ثانيا مازالت ترتاب وترفض المعارف الغربية "المسيحية" وترى فيها بدعة, وهي ثالثا لا تحترم هذه المعارف إذا قيض لبعضهم أن يحصل عليها في الغرب, أو في بلده, وبالتالي فإن نسبة الأمية تصل حد الفضيحة, وهي بين النساء أكثر شيوعاً, وهذا ما يكشف عن مجتمع يضع المرأة في موقع هش وهو توجه يميز شخصية المسلمين خاصة في العالم العربي. ويضيف: "إن أبرز مؤشر على تطور الأمة ونموها هو مكانة المرأة والدور الذي تلعبه في المجتمع وتلك هي أكبر اعاقة يعاني منها العرب المسلمون في الشرق الأوسط" ويتساءل: هل هذه الاعاقة هي موروث إسلامي؟ ويجيب استناداً إلى الباحث الأمريكي من أصل عربي فؤاد عجمي إن الإسلام يمكن أن يدفع بالمؤمن إلى الأمام أو أن يرده إلى الخلف, فعندما أدان الإخوان المسلمون اتفاق السلام الذي وقعه الرئيس السادات مع إسرائيل باعتباره معادياً للإسلام فإن الحكومة المصرية استصدرت من الجامع الأزهر فتوى ترى أن الاتفاق لايخرج عن الإسلام في شيء, إن التفسير يختلف تبعاً للزمان والمكان والقيم السائدة.
رأسمالي على خطى ماركس
          "الجغرافيا قدراً" هو العنوان الذي اختاره البروفيسور في الاقتصاد والعلوم السياسية.. باري ايشنغرين لعرض ونقد الكتاب في مجلة "فورين أفيرز" والبروفيسور يعمل حالياً مستشاراً لدى صندوق النقد الدولي, وهو يشير بداية إلى أن دافيد لاندس الذي انتقل من قسم التاريخ في جامعة هارفرد إلى قسم الاقتصاد يتنقل بين هذين الحقلين بحرية, فالحدود بينهما لاتقلقه, ويصف لاندس بأنه "رأسمالي ولكنه يمشي على خطى كارل ماركس, إذ إن ماركس, مثل لاندس, يرى أن التطور التكنولوجي وما يعكسه من تغيير وتراكم رأس المال هما ماكينة قوية للتنمية الاقتصادية تجتاح كل ما عداها, ولكن ماركس توصل إلى حكم مختلف حول مدى حيوية الرأسمالية, واقترح حلاً ميكانيكياً عندما استنتج أن الاقتصاد المتخلف يرى في الاقتصاد المتقدم مثاله ونموذجه للمستقبل, وبكلمات أخرى فإن جميع الدول تتبع مشروعاً واحداً للتنمية.
          وهنا ينتقل البروفيسور باري إلى عرض نظرية متطورة للتنمية أطلقها زميل المؤلف في الجامعة لعدة سنوات وهو البروفيسور الكساندر غريشنكورن في كتابه: أوربا في المرآة الروسية, وملخص هذه النظرية هو أن هناك دولاً مثل روسيا كانت تفتقد  الشروط المسبقة الاجتماعية والاقتصادية لخلق تنمية رأسمالية, وكلما كان الاقتصاد أكثر تخلفاً تأخر قيام الصناعة, ولكن في الوقت نفسه كلما تم تأجيل عملية التصنيع فإن هذه العملية تنمو بطريقة أسرع متى بدأت, إذ إن من يأتي متأخرا يستطيع أن يستورد أكثر التكنولوجيا تطوراً "لعل إعادة بناء وسط بيروت التجاري تصلح نموذجاً للإعمار الذي جاء متأخراً".
          ومن هنا فإن البناء الاقتصادي يختلف بين المصنعين الأوائل والمتأخرين, إذ إن اقتصاد من يدخل الصناعة متأخرا هو أكثر تركيزا لرأس المال, كما أن الصناعة الثقيلة للدولة, ومصارفها الكبيرة تلعب دوراً أكبر في احتواء العقبات التي تواجه عملية التصنيع, إن ألمانيا هي نموذج لهذا الدخول المتأخر في التصنيع, بينما بريطانيا, هي النقيض, فقد كانت من الطيور المبكرة.
          إن البروفيسور الكساندر كان يبحث في شرق أوربا وحدها, وهو لم يطرح السؤال: لماذا كان هناك دائماً مناطق كثيرة في العالم تقاوم التغيير؟
التدليل الذاتي والعجز
          ويضيف المستشار في صندوق النقد الدولي متابعاً عرض الكتاب, فيقول: إن الغرب, وفق لاندس, يغرف من الجغرافيا ومن الثقافة, فالثورة الصناعية في أوربا, في عمقها, كانت نتيجة "تيار الخليج" ـ Gulf Stream ـ فالصيف المعتدل للقارة يسمح بنشاطات فسيولوجية كثيفة, على النقيض من المناطق الاستوائية حيث الحرارة والرطوبة ترغمان حتى أكثر الناس حيوية على البحث عن ملجأ من شمس الظهيرة, وحيث الدوافع لايجاد آخرين يقومون بالعمل الشاق يؤدي إلى تركيز الثروة وهو ما يفسر ازدهار نظام العبودية, وهو نظام اقتصادي واجتماعي عاجز عن منافسة الرأسمالية, أو كما يقول المؤلف: "إن المجتمع عندما ينقسم بين مجموعة صغيرة من مالكي الأراضي ومجموعة كبيرة من الفقراء, وربما من عمال السخرة, أو على الأصح بين مدرسة للكسل وللتدليع أو التدليل الذاتي وأخرى خلعت كل أنواع الأمل والشجاعة من نفوسها, فماذا يبقى من دوافع للتغيير أو للتطوير؟".
الغربي عندما ينتخب.. بقدميه
          وهنا يصل مقال مجلة "فورين أفيرز" إلى بيت القصيد, كما يقال, فيؤكد الكاتب أن قمة ما انتجته هذه الجغرافية الأوربية هي الديمقراطية الغربية, ويقصد في هذا السياق, مقارنة بين أوربا الغربية والهند والصين, حيث الطوفان أو الجفاف يجعل التحكم بالمياه مسألة رئيسية لإنتاج الطعام, وهذا يقتضي بناء سدود عملاقة على أيدي العمال المسخرين "يعملون مرغمين ومجانا", وهو ما يدفع إلى إيجاد نظام مركزي تتحول فيه الملكية الشخصية والمبادرة الفردية إلى ترف, كما أن أي اختراع أو تطوير يصبح تهديداً للنخبة السياسية أو الدينية الحاكمة, أما في غرب أوربا فإن قانون القبائل الجرماني كان يعترف بأن "الفرد هو سيد ما يملك" ولأن هذا الفرد كان قادراً دائماً على أن "ينتخب بقدميه" أي أن يترك القبيلة أو المقاطعة أو الدولة, ويغادر إلى منطقة أخرى, فقد كانت قيود السلطة بالتالي محدودة.. وكانت الآفاق أمام الديمقراطية مفتوحة.
          وبعد أن يمر الكاتب بالمراحل التاريخية التي عاشتها أوربا الغربية, والحركات الاصلاحية التي قوضت سلطة الكنيسة, يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية هي إنتاج غربي, وهنا بالطبع يطرح السؤال: ماذا عن تجارة الرقيق التي مارستها أمريكا, وجلبت الأفارقة عنوة ليعملوا في مزارعها؟ ويرد الكاتب: "حتى في الجنوب الأمريكي, حيث المناخ والجغرافيا شجعا على استخدام العبيد فإن هذا الجنوب عمل وبسرعة على تجاوز هذا النظام المعادي للنمو الرأسمالي بعد اختراع مكيفات الهواء التي حررت أهل الجنوب من إعاقة الجغرافيا".
          ويضيف عن اليابان أن الجغرافيا ساعدتها على حماية صناعتها, ثم إن أخلاق العمل التي تشجعها الديانة البوذية ساعدت في انفتاحها على الآخرين ومنافستهم.
          أما إفريقيا, فهي في نظر الكاتب, تكاد تكون حالة يائسة, فهي عاجزة حتى اليوم, بسبب المناخ الحار, عن التغير بسرعة, وهي وجهة نظر تلقى دعماً كبيراً من زميل لاندس في جامعة هارفرد جفري ساشز.ولعل ما يخيف فعلا بعد قراءة كتاب لاندس ونقده هو أن نكتشف وبحزن كبير أن أمماً بكاملها, ونحن في طليعتها, أهدرت دماء أبنائها وأعظم طاقاتها وهي تصارع التاريخ في محاولة لتغييره, بينما الحرب الفعلية هي مع الجغرافيا, وسلاح المواجهة لتغييرالجغرافيا هو التكنولوجيا والاختراعات والطب, أما الذبح والإرهاب والقهر باسم التاريخ أو الدين فإنه يعيد إلينا صدام حسين باعتباره صلاح الدين والقتلة في الجزائر باعتبارهم المسلمين الأوائل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق