الجمعة، 28 أكتوبر 2011

“لاهجر قصرك واسكن بيت الشعر”


لم يخطر في بال الفنانة اللبنانية دلال الشمالي أن أغنيتها الشهيرة “لاهجر قصرك واسكن بيت الشعر” سوف تتحول إلى نظرية متداولة في علم الاقتصاد وفي الإمارات بالذات، فالفنانة التي رفضت “صرة” مليئة بآلاف الليرات الذهبية قدّمها لها أحد شيوخ العشائر كي تشاركه “بيت الشعر” في بادية الشام، اشترطت أن يقدم لها أولاً عمارة في بيروت، يمكن أن “تهجرها” فيما بعد إلى البادية، وتقول الفنانة التي تقيم حالياً في منطقة سن الفيل في بيروت: “بيت الشعر حلو في الأغنية، أما في الواقع فإن القصر أحلى”.

حسناً، هناك بالإمارات من يعتقد أن منزله ، منذ ما يزيد عن ربع قرن، كان أكثر راحة من الفيلا الفخمة التي يسكنها اليوم، وأنّ السكيك الذي ترعرع فيه كان أكثر توافقاً مع متطلبات الحياة، وأقرب إلى الوداعة والاستقرار من الحي المطل على الطرق السريعة وناطحات السحاب.
وتكتب إحدى الزميلات في زاويتها اليومية عن الدموع التي تكاد تفر من عينيها عندما تمر بالحي الذي كانت تسكنه، وهو الآن قد أصبح مقراً ومستقراً.. للوافدين.
هذا الحنين إلى “الماضي الجميل”، كما يحلو لأشقائنا في مصر أن يجعلوه لازمة تتكرر في كتاباتهم وحواراتهم ليس جديدا على المجتمع العربي، فالبكاء على الأطلال كان أبرز تقاليد الشعراء القدماء، مع أنهم لم يعرفوا القصور، بل كانوا يتنقلون بين بيوت الشعر، وليتهم كانوا يبكون جالسين، بل يصرّون على أن تساقط الدموع لا يصح إلاّ على الواقف، ما دفع أبو نواس إلى أن يتغنى ساخراً:
قل لمن يبكي على رسم درس واقفاً ما ضرّ لو كان جلس؟
وهو حال الباكين اليوم على أطلال نصف القرن الماضي، أما كيف ينجحون في تحويل “بيت الشعر” إلى نظرية اقتصادية، فهم اعتمدوا المنطق التالي: أن الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت تلقي بظلالها الثقيلة والمعتمة على الخليج سوف تساهم في إعادة التوازن السكاني، وفي استعادة بعض استقرار السكيك، فالنشاط الاقتصادي، وخاصة العمراني والعقاري، سوف يتباطأ، مما سيؤدي إلى إلغاء الكثير من المشاريع، وإقفال العديد من الشركات والمرافق، ما يعني أن تدفق العمالة الأجنبية سوف يتوقف، وأن جزءاً كبيراً من العمالة الحالية سوف يضطر إلى المغادرة، وهكذا يستعيد المواطن بعضاً من هويته الوطنية المهددة، ويسترد خيوطاً من التواصل مع جيرانه ومحيطه، ووفقاً لورقة قدمتها الأمين العام لجامعة الإمارات الدكتورة فاطمة الشامسي في ندوة عن التعليم العام والهوية الوطنية، فإن أحد مجالس البلديات في إحدى مدن الدولة كان قد أصدر قراراً يمنع بموجبه سكن “العرباء” في مناطق معينة بالمدينة، كي تحافظ على هويتها، وقال أحد أعضاء المجلس إن هذا المنع يشمل “من لا يتحدث بلهجتنا” أي ليس الوافدين الأجانب فقط بل الوافدين إلى المدينة من عشائر وإمارات أخرى.
وهذا النموذج الذي طرحته الدكتورة الشامسي نقلاً عن تقرير نشر في إحدى الصحف المحلية يكشف أن ذاك الحنين إلى الماضي يتحول إلى “عدوانية” تجاه الآخر، باعتبار أن بيت الشعر لا يتسع للغرباء، مع أن النهضة العمرانية والعقارية والزراعية والصناعية قد حوّلت تلك المدينة، ومعها مدن الدولة الأخرى إلى قصور تتجاور فيها الشعوب وتتفاعل الحضارات وتشكل مجتمعاً نادراً في تنوعه وغناه، من دون أن يفقد هذا المواطن خصوصيته، وهو ما ظهر جلياً في عام الهوية الوطنية وفي الاحتفالات التي شهدتها البلاد في يومها الوطني وشارك في أفراحها أهل الامارات جميعاً المواطنون والمقيمون.
.. والمفارقة هنا هي أن دلال الشمالي صاحبة أغنية “لا جر قصرك واسكن بيت الشعر” تعيش اليوم في بيروت، ولديها عمارتان، وتستثمر أموالها في العقارات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق