الطيب صالح |
سمعت الطيب صالح يقهقه في قبره، كانت الساعة تجاوزت التاسعة صباحاً من يوم السبت الماضي، وكانت الجثة التي وصلت من لندن باردة، ولكن عندما انزلقت داخل الحفرة الترابية في مقابر البكري في أم درمان خرج صوت القهقهة وكان مجلجلاً، سمعته بوضوح ولم أكن وحيداً، بل كان هناك الآلاف، بل ربما عشرات الألوف ممن تابعوا جنازة الأديب الراحل، وسمعوا تلك القهقهة تتصاعد من القبر ويتردد صداها في الأرياف والحواضر العربية، بعضهم قال أنها تشبه ضحكة مصطفى سعيد، بطل رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”، وهو يغزو الغرب بداية من غرف النوم، وبعضهم استنكر هذا التشبيه وقال إنها الضحكة المألوفة نفسها التي كان يطلقها الطيب كلما اكتشف أن الملهاة هي قمة المأساة، وهي مازالت تتردد في آذان كثيرين سمعوها عندما كان الطيب يقول ساخراً: “فنشوني ولكنهم لم يبلغوني”، في إشارة إلى مجلة خليجية كان يكتب صفحتها الأخيرة على مدى سنوات ثم توقفت عن نشر زاويته، من دون أن يكلف المسؤول نفسه عناء أن يبلغ الطيب بالتوقف عن إرسال المقال الأسبوعي!
وقال آخرون إنها قهقهة الفرح والسعادة الغامرة بالعودة إلى تراب الوطن ولو في كفن، وفي كل الحالات لم ينكر أحد أنه سمع الطيب صالح يضحك في قبره، عندما كان وزير الثقافة السابق عبدالباسط عبدالماجد، يرثيه أمام قادة النظام في السودان، ويقول: إن الطيب صالح نقلنا جميعاً إلى العالم وأصبح يعرف بالأديب السوداني وهذا مكسب للجميع، وإن ما أنتجه يثبت قدرة السودانيين على الإبداع، وقد أصبح رمزاً وباحترامه نلنا جميعاً الاحترام والتقدير”.
لا شك أنّ الوزير السابق كان غاية في الجرأة عندما أطلق هذه الكلمات أمام أركان النظام، فقبل عامين فقط قرر أهل النظام منع تداول “موسم الهجرة إلى الشمال” لأنها رواية إباحية، أما كيف اكتشفوا ذلك بعد حوالي ثلاثين عاماً من صدورها، فالسبب بسيط وهو أن عبقري الرواية العربية أدلى لإحدى الصحف بحديث انتقد فيه النظام في بلده السودان، وهو ما كشف عن إباحيته (!).
ولعل هذا يفسّر لماذا كان الطيب صالح يقهقه في قبره، وهو يراقب بحسه الروائي الساخر “لوعة” أهل النظام على وفاته، بعيداً عن إنجازاته التي أثبتت أكثر من سواها “قدرة السودانيين على الإبداع”.
وليس الطيب صالح وحده هو من يقهقه في قبره، إذ أن كثيرا من الأدباء والشعراء والمثقفين وعلماء الدين ما زال يتردد صدى الضحكات في قبورهم، وهم يستمعون إلى أهل السلطة عندما يحتفلون بهم بعد وفاتهم أو قتلهم، والأسباب نفسها تتكرر دائماً وهي أن الأنظمة غالباً لا تتحمل الاختلاف وتعتبره خيانة، وأن كثيراً من الحكام يريدون أن يكون الشعب “متجانساً، أي متفقاً على حبهم، وفي هذا يقول كتاب “الضحك والنسيان” للمؤرخ ميلان هوبل: إذا أردت القضاء على شعب فامسح ذاكرته، أحرق كتبه، دمر ثقافته، وامسح تاريخه، وبعد ذلك كلّف أحدهم أن يؤلف كتباً جديدة، وأن يقوم بتصنيع ثقافة حديثة، وأن يخترع تاريخاً عصرياً.. وقبل مضي وقت طويل فإن الشعب ينسى من هو وما كان عليه ويصبح متجانساً”,
بالطبع، المثقف يرفض هذا التجانس القسري، ويبحث عن التنوع والتعددية ويرى في الحوار جسراً يتواصل عبره المختلفون، وهو لا يتحقق إلا عبر المؤسسات الديمقراطية، وفي هذا السياق يقول الشاعر والمثقف الراحل سلطان العويس في مقابلة مطوّلة معه نشرتها مجلة “العربي” في العام ١٩٩٣: اسمع سأقول لك شيئاً.. إن هذا النظام العربي يجعلنا نعيش حالة التباس مع هويتنا العربية، فهذا النظام يطلب دعمك ومؤازرتك باسم العروبة وباعتبارك عربياً، وأنت تفعل هذا لأنه واجب وطني وقومي، ولكن ما إن تفتح فمك بانتقاد ما لشخص ما في دولة ما حتى يصرخوا بضراوة: إنك تتدخل في شؤوننا الداخلية، أي يجعلون منك أجنبياً غريباً، وكأن شرط عروبتك أن تبقي فمك مقفلاً، أن تبقى صامتاً”.
ومع ذلك، وحتى إذا تحقق هذا الصمت يا بوعلي، فإنه لن ينقذ المفكر، وكما يروي الشاعر العراقي الراحل بلند الحيدري، وقد جمعتني به زمالة في التعليم والإعلام امتدت سنوات بين لبنان ولندن، فأن السفير العراقي في لندن (أيام الحكم السابق) اتصل به هاتفياً وطلب منه أن يزوره في السفارة لأسباب ضرورية، وذهب بلند إلى السفارة، وما إن انتهى من شرب استكانة الشاي حتى قال له السفير: اسمع يا بلند، لماذا تعارض النظام ولا تحب الرئيس؟ ورد بلند محتجاً: ولكنني لم أعارض النظام ولم أنتقد الرئيس لا في كتاباتي ولا في مقابلاتي. وقاطعه السفير على الفور: ولكنك لم تمدح الرئيس أيضاً!
المثقف ذاكرة الأمة ولأن الذاكرة لا تموت فإنها تقهقه حتى وهي في القبر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق