ضربنا خيامنا فوق تلة رملية مرتفعة في محاضر ليوا، على تخوم الربع الخالي، وبدأنا الرحلة لاكتشاف الصحراء حولنا، وكانت الرمال ومعها السماء حبلى بالمفآجات.
شباب قبيلة الهوامل، بقيادة الفقيد حيّ الهاملي، قرروا أن يحتفلوا بناشر جريدة “السفير” الصديق طلال سلمان، على طريقتهم، فاصطحبونا، في رحلة تخييم في مرابعهم، وهم ينشدون لشاعرهم “ليوا الحبيبة.. حبيبة تربة ريالي”.
الطريق من أبوظبي إلى محاضر ليوا يستغرق عادة حوالي ثلاث ساعات، ولكن الهوامل ومعظمهم من كبار الضباط، قطعوا المسافة في أقل من ساعتين. كانت سياراتهم ذات الدفع الرباعي خلالها تطارد “كثبان عالج” التي شبَّه بها أبو العلاء المعري ردفي حورية الجنان.
قطعنا “المشواف” وهو تلة كان أبناء المحاضر يقفون فوقها بانتظار عودة الرجال من موسم الغوص، إلى أن بلغنا منزلاً يقع على منحدر رملي، قالوا إنه “عيادة بو شلبود”، وكان أحد أبنائه يرافقنا. لم ندخل المنزل، بل اندفع الهوامل إلى “عشيش” ملتصق بالمنزل، حيث قفز “ابن شلبود” كالغزال لاستقبالنا. كان في حوالي السبعين من عمره، ضئيل الحجم بلحية صغيرة علاها الشيب، وعيني صقر. وماهي إلا دقائق حتى بدأت طقوس “الوسم”، فأشعل ابن شلبود النار، ووضع فيها “الميسم”، وهو قطعة من الحديد الدقيق، وعندما صار أحمر كلسان من لهب، تدافع الهوامل للوسم، مع أن معظمهم، ما شاء الله، كان مثل عملاق الوادي المسحور، كما يظهر في أفلام الكارتون، قوياً ومبتسماً ولا يشكو من شيء “الوسم مفيد حتى وإن كنت لا تشكو من وجع، إنه مثل الهجوم الاستباقي”. قالها أحدهم.
“ابن شلبود” روى لنا كيف كان يعالج زملاءه في شركة النفط البريطانية عندما بدأت أعمالها في أبوظبي، ثم كشف عن بطنه، فإذا بآثار حروق تحيط بدائرة تغطي معظمه، قال: ضربني “السليطان” -السرطان- في معدتي، فأقمت حوله حزاماً من نار، حاصرته ثم قتلته” وأشار إلى بقعة سوداء فوق الصرّة. أما مسك الختام في هذا المسلسل الطبي فقد كان التحدي الذي أطلقه ابن شلبود للسباق هبوطاً من التلة ثم عودة إلى القمة، وقبل الشباب التحدي، وبالطبع فإن تلميذ ابن سينا كان أول العائدين إلى قمة التلة، بينما كان اللهاث يجمع جوقة المشاركين.
وكان “ابن شلبود” فصلاً من الرحلة، أقرب إلى المقبلات في قائمة الطعام.
هل قلنا المقبلات؟ لا، تلك كانت شيئاً آخر، فقد أبى الهوامل إلا أن يكرمونا وفقاً للتراث والتقاليد، فاندفع عدد من أطفالهم فوق الرمال يطاردون “الحلجة” وهي نوع من السحالى البراقة، أقرب إلى سمكة الصحراء، ومع أنها كانت تغور في الرمل وتختفي إلا أن الأطفال كانوا يكتشفون من حركة لا تكاد ترى في ذرات الرمال اتجاهها، ويضربون بقبضاتهم الصغيرة ويسحبونها، وبعد أن تراكمت تلة صغيرة من السحالي الصحراوية، بدؤوا تنظيفها وسلخها ثم وضعت على النار، وبدأ تقديمها للضيوف مشواة (!).
مضغت القطعة الأولى منها على مهل وبتردد، ولكن بعد أن استطعمتها، وكانت بطعم عصافير لبنان، اندفعت إلى أكلها بحماسة، ودخل طلال في منافسة معي، ولعلنا فوتنا بذلك على مضيفينا فرصة أن يتعاملوا معنا باعتبارنا سياحاً، وهنا جاء دور والد صديقي حيّ، وهو بدوي ذو وجه وقور وإن لم يكن يتوقف عن الابتسام، أخرج من كيس معه “ضباً” برأس كبير يزيد وزنه على نصف كيلو، قال: إن صيده كما تعرفون لم يعد سهلاً، ولكن لحمه أطيب من لحم الغزال، كانت هناك طاولة خشبية صغيرة وضعت على الأرض، قرب النار، فأخرج أبو حيّ سكيناً حادة ونحر الضب ثم بدأ بسلخه، ولكن الضب قفز من بين يديه فجأة وبدأ يتقافز فوق الرمال وهو نصف مسلوخ وينزف دماء، رغم أن الأطفال أعادوا القبض عليه إلا أن شعوراً بالتعاطف معه منع عنا الحماسة في أكله بعد شوائه.
في الليل كانت الذبيحة جاهزة فوق النار، وأخرى مدفونة داخل الرمال يحيط بها الجمر، وكانت تنضج على مهل، بعد العشاء، بدأنا شرب القهوة والشاي، ولاحظت أن الكهول في حلقة الرجال التي تحيط بالنار كان الواحد منهم يكوّر إبهامه فوق رأس السبابة ثم ينفض بها شيئاً يسعى على الرمل أمامه، لم أنتبه ما هو هذا “الشيء”، سألت جاري: ماذا يفعلون؟ أجاب: يقذفون العقارب في النار، أنت تعلم أن العقارب تخرج من جحورها لتتدفأ قرب النار، في موسم البرد”.
صمت جاري، بينما كنت أتابع أصابع الكهول، وهي تزداد نشاطاً في “نقف” العقارب إلى داخل النار، وبعد تفكير، سألت جاري الكهل: يبدو أن هناك المئات من العقارب، وربما الآلاف، فماذا تفعل عندما تنطفئ النار، وأين تذهب؟ ابتسم وهو يشير إلى الفراش داخل الخيمة، وكأنما كان يقرأ أفكاري، قال: لا تقلق، إن العقرب تدخل الخيمة وتختبئ تحت الفراش بحثاً عن الدفء، إنها لا تدخل إلى الفراش بل تبقى تحته”. وبالطبع لم يغمض لي جفن خوفاً من عقرب ربما فقدت حاسة الاتجاه، وهو ما يحدث كثيراً مع السلاحف البحرية والحيتان، مع فارق أن العقرب التائهة لن ترسو على الشاطئ بل سوف تختار أكثر المناطق دفئاً في جسمي .
ما حدث بعد ذلك كان أقرب إلى مسلسل هندي، فقد هبت رياح عاصفة بعد منتصف الليل اقتلعت خيمتنا وقذفت بها بعيداً، بينما انفرجت السماء فجأة عن غيوم حبلى بالأمطار، وهطلت غزيرة ومتواصلة. وسمعت صوت طلال يجاهد العاصفة، قال: “..ولكنهم علمونا في الجغرافيا أنها لا تمطر فوق الربع الخالي”.
..وكانت ضحكات الهوامل تزرع الربيع في شتاء الصحراء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق