الخميس، 9 نوفمبر 2017

الوجه الآخر للقوة العظمى المخيفة للعالم كله

03/06/1995 السفير
الوجه الآخر للقوة العظمى المخيفة للعالم كله 250 ألفا قتلوا في حروب الشوارع وأوكلاهوما
سيتي ذروة سياسية"العدوانية القبلية"تغزو المركز...والحضارة أما أن تكون مصرية أو عراقية
"تسألون عن الحكومة الاتحادية...؟ حسنا، يمكن ان تقولوا انها مجموعة عصابات..." العبارة للمفكر الاقتصادي الاميركي البارز "موراي روثبارد"، وتحولت، بعد فوز الحزب الجمهوري في انتخابات الكونغرس الاخيرة، الى شعار يختصر اهداف »الكابيتول هيل« بمهمة واحدة ومحددة وهي تصفية مجموعة العصابات الاتحادية والعودة الى الشعب بموجب »العقد مع اميركا« الذي طرحه الجمهوريون برنامج عمل لهم، وفازوا بالاغلبية على اساسه.
ولكن الميليشيات وليس الكونغرس هي من سارع في اوكلاهوما سيتي يوم 19 نيسان الماضي،
الى محاولة ترجمة العقد... ميدانيا.
    السيد غينغريش... هل تعتقد ان الاجواء المعادية للحكومة التي رافقت انتصار الجمهوريين
ربما ساهمت في الهجوم على مبنى المؤسسات الاتحادية في "اوكلاهوما سيتي"،
بخاصة وان معظم الضحايا كانوا موظفين اتحاديين؟
السؤال طرحه صحافي على الناطق باسم مجلس النواب »نيوت غينغريش«، بعد 3 ايام من المجزرة،
واحمرّ وجه الناطق غضبا وهو يرد: "هذه مسخرة اعتقد انها مسخرة واستفزاز، هذا استفزاز كبير
منك. ولا اكاد اصدق انه يمكنك ان تقول شيئا كهذا...".
غير ان الصحافي عقّب بهدوء: لا اعتقد انهم  الموظفون الاتحاديون  يفكرون بالطريقة نفسها،
لقد تم تصنيفهم باعتبارهم »بيروقراطيين« وكأنهم لا يملكون اية حياة بشرية خاصة بهم...«.
ويكاد الناطق الجمهوري يخرج من ثيابه، وهو يرد بانفعال: من السخرية الواضحة ان تقترح بأن
اي واحد في هذه البلاد يطرح اسئلة مشروعة عن حجم واهداف الحكومة الاتحادية،
له اي دور في هذا... انها مسخرة«.
لا... للدولة
"نيوت غينغريش" هو من اتباع مدرسة الاقتصادي روثبارد، وهي مدرسة تملك في واشنطن
مركزù للتفكير استراتيجية هو مركز »كاتو« وترى هذه المدرسة ان الغاء الدولة هو خطوة حتمية للوصول الى »الرأسمالية الكاملة« التي لم تُحقَّق حتى الآن، وبالتالي فهي تدعو الحكومة الى التخلي عن الضمان الاجتماعي والصحي والتربية والتعليم والبريد والبيئة والزراعة بحيث يصبح كل فرد مسؤولا عن نفسه. دون اعتماد على الحكومة، حتى في الأمن الذي يمكن ان يوفره لنفسه عبر تخزين السلاح، فيما لو عجزت الحكومة عن توفيره...
وربما يكون غينغريش محقا فالقضية تصبح مسخرة عندما تحاول الميليشيات ان تلغي الدولة
عبر الرصاص والمتفجرات وليس عبر صناديق الاقتراع، ولكن أليست هذه المسخرة بالذات
هي ما يرسم ملامح العنف السياسي ومقدمات الحروب الاهلية بين القبائل... حتى الاميركية؟.
يقول المعلق والسياسي الجمهوري »روش ليمباخ« ان ثورة العنف الاميركية الثانية تقترب، انني افتح اصابعي مسافة ربع انش، انها بهذا القرب، لان الناس تعبوا الى حد القرف من عصابة البيروقراطيين في واشنطن التي تحاول ان تفرض عليهم ما يستطيعون او ما لا يستطيعون ان يفعلوه بأراضيهم...«. وبرنامج ليمباخ الاذاعي تبثه 660 محطة اميركية، وكان »المدفع الثقيل« للجمهوريين في الحملة الانتخابية الاخيرة.
وثورة العنف تنتقل من استوديو الاذاعة الى الادغال والحقول الاميركية حيث تمارس 25 ميليشيا
على الاقل تدريباتها العسكرية، ثم الى اوكلاهوما سيتي، حيث تختصر الرصاصة والمتفجرة جميع البرامج السياسية، و...تحرق المراحل.
»ان الارهاب الاتحادي لا يقل وحشية، في قتل الابرياء، عما جرى في اوكلاهوما سيتي... في مدينة واكو قتلت الحكومة الاتحادية 22 طفلا ان كنتم نسيتم هذا...« تنقل صحيفة واشنطن بوست عن قائد احدى الميليشيات، في اشارة الى مذبحة الداووديين، تيل ستين في تكساس، وفي التاريخ ذاته  19 نيسان  ويضيف قائد »ميليشيا متشيغان« تورمان اولسن في مقابلة تلفزيونية بعدا
تاريخيا ودستوريا الى ذلك اليوم الدامي، فيشير الى معركة لكيسنغتون عام 1775م، حيث
قامت الميليشيات الاميركية بقتال الجيش الانكليزي المستعمر، كما يشير الى حق المواطنين،
بموجب التعديل الثاني للدستور، بتشكيل الميليشيات، ويضيف: »ان العدالة عندما تعجز عن مواجهة
وحشية الطغاة  اي الحكومة  فانك سوف تجد شخصيا ما هناك... يخرج لاعادة التوازن وتحقيق العدالة«. ويُذكر ان المهتمين الرئيسيين في المجزرة ينتمون الى هذه الميليشيا بالذات.
وبعيدا عن صخب »ثورة العنف الثانية« وديماغوجية المواجهة بين »الحكومة« وبين »الشعب«
و... عربدة الميليشيات المسيحية البيضاء، فإن القارة الاميركية تعيش قلقù عظيمù، يعبّر عن نفسه
اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، ويرفع كثيرين منالمفكرين الجادين، الجمهوريين والليبراليين،
الى التساؤل عما اذا كانت الديموقراطية الاميركية ما زالت قادرة على احتواء العنف، ام ان ما جرى
في الاتحاد السوفياتي، ويجري في اوروبا وافريقيا وآسيا هو ظاهرة كونية لن توفر حتى الولايات
المتحدة الاميركية.
عودة "العدوانية القبلية"
في كتاب »اعادة تقسيم اميركا« يسأل الكاتب والصحافي الحائز على جائزة بوليتزر
»آرثر شليسنجر«: ماذا يحدث عندما يستقرّ أناس من اصول مختلفة، ويتحدثون لغات متعددة،
ويتبعون مذاهب واديانù متباينة،
في بقعة واحدة، وتحت علم واحد؟
ويجيب: اعتقد انه اذا لم يكن لديهم هدف مشترك يجمعهم فإن »العدوانية القبلية«
سوف تشتت شملهم.
ان الازمات الاثنية والعرقية، كما هو واضح، سوف تكون البديل عن الايديولوجيا، يعد انهيار الاتحاد السوفياتي، باعتبارها القضية الاكثر سخونة في المرحلة الراهنة«.
ويضيف: ان المراقب عندما يتابع الازمات الاثنية التي تمزق دولة بعد اخرى، لا يمكن ان ينظر بلا مبالاة الى اقتراح بتقسيم الولايات المتحدة الاميركية الى مجتمعات عرقية واثنية متباينة وغير قابلة للتغيير، كل من فيها يتعلم اختلافه مع الآخر، الى حد لا يمكن معه إلاّ ان يتساءل: هل يصمد المركز، ام ان »المصهر Metting pot« سوف ينهار ليأخذ مكانه برج بابل؟
و»المصهر« او »البوتقة« عبارة اطلقها الكاتب الاميركي رالف والرد ايمرسون قبل اكثر من قرن، ليصف بها اميركا التي استطاعت ان تصهر »القبائل الاوروبية« وحتى الافريقية في بوتقة واحدة.
ويستعرض شليسنجر تجربة كندا، فينقل عن »الايكونوميست« البريطانية »هنا لدينا واحدة من الدول الخمس الاكثر غنى على وجه الارض، دولة نادرة في سعة اراضيها وفي توفير فرص العيش، حيث ان معظم فقراء الارض يطرقون ابوابها للدخول... ومع ذلك، فانها تقسم نفسها نُتفا... اذا لم يكن باستطاعة واحدة من اغنى دول العالم ان تقيم فيدرالية، دولة متعددة الاثنيات، فمن يستطيع ذلك، اذن؟
ويرد: ان الجواب، كان وحتى مرحلة متأخرة، هو الولايات المتحدة الاميركية.
وفي البحث عن الاسباب التي تمنع تقسيم اميركا، كما هو الحال في كندا بعد انتصار الحزب الأنفصالي في كوبيك، ينقل شليسنجر عن اول رئيس وزراء كندي السير جون ماكدونالد قوله: »ان كندا لديها الكثير من الجغرافيا ولكن القليل جدù من التاريخ«. اما اميركا، كما يقول شليسنجر، فإنها تملك الكثير من التاريخ، ولكن هذا التاريخ بالذات الذي حفظ وحدتها بدأت تجتاحه اليوم »حروب القبائل« وهو ما يجعل »تقسيم اميركا« موضوعا مطروحا ليس في الجامعات وحدها بل في المجتمع كله.
لحضارة عراقية ام مصرية؟
تقسيم اميركا؟ الا يحمل مجرد السؤال فيضا من المسخرة؟
شليسنجر، وهو نشر كتابه قبل احداث لوس انجلوس التي قسمت اميركا، قبل عامين، الى »اسود« و»ابيض«  لا يعتقد ذلك،
وهو يطرح عشرات الامثلة الواقعية عن عملية »التقسيم« اليومي التي تمارسها »القبائل الاميركية«
وفي طليعتها »القبائل الافريقية« التي قررت ان ترفض حضارة الانكلو ساكسونية، وان تعلم
في مدارسها وجامعاتها الاجيال الطالعة من الافارقة الاميركيين، حضارة افريقيا، وبالذات الحضارة
المصرية باعتبارها »ام الحضارات«  والتعبير للمؤلف.
يقول شليسنجر مجتمعا: ان الافارقة الاميركيين عندما يقررون ان المنهج في جامعاتهم ومدارسهم لا بد ان يكون افريقياً، فإن حجتهم هي ان افريقيا منبت العلم والفلسفة والدين والطب والتكنولوجيا، وكلها انجازات تُنسب ظلما الى الحضارة الغربية، فالى اي حد تبدو هذه الحجة صحيحة؟! ان معظم المؤرخين وعلماء الآثار يعتبرون ان العراق هو مهد الحضارات... ولو كان هناك عراقيون  اميركيون بالعدد نفسه الذي يشكله الافارقة الاميركيون، فاننا بالتأكيد كنا سوف نشهد حملة لتعليم المناهج العراقية، وهي حملة يمكن ان يساهم فيها عدد كبير من المؤرخين الجادين.
ويضيف: لا ازعم انني خبير في التاريخ المصري، ولكن الافارقة الاميركيين لا يزيدون خبرة  عني... انهم يستشهدون بكتاب »
اثينا السوداء« لمؤلفه مارتن برنال ليكشفوا عن تأثير الحضارة المصرية على اثينا القديمة... وعلى ان عدة سلالات فرعونية حكمت مصر كانت سوداء...«.
ويحشد شليسنجر عددù من المؤرخين ليؤكد ان العراق القديم وليس مصر هو ام الحضارات، كما يصف دعاوى بعض السود الاميركيين بأنهم يتحدرون من نسل بلقيس ملكة سبأ اليمنية بأنها »كذبة نبيلة«.
والمهم في هذا الانقسام، كما يرى شليسنجر، هو ان الخلاف ليس على الماضي »لان من يملك الماضي يملك المستقبل ايضا... فالتاريخ يتحول الى سلاح«.
ابناء النار والجليد
والحرب الاهلية لا تقتصر على الدوائر الاكاديمية، ففي استطلاع للرأي قامت به صحيفة »نيويورك تايمز« عام 1990 اكد 29 بالمئة من الافارقة الاميركيين ان مرض »الايدز« اخترعه البيض للقضاء على السود، واكد 60 بالمئة ان الحكومة هي من يقوم بتوفير المخدرات في اسواق السود لقطع نسلهم، وفي السياق نفسه تنقل مجلة »تايم« الاميركية عن مجموعة من الطلاب السود، قولها »بأن وثيقة سرية، تم وضعها اثناء ولاية الرئيس جيمي كارتر، توحي بضرورة تصفية مئة مليون افريقي حتى العام 2000، وفي طليعتهم الافارقة الاميركيين الذي يعرفون التاريخ الاميركي، وطبيعة الحكم القهري الابيض، ويعرفون كيف يقاومونه«.
ومع ان »الفعل« القهري ممنوع بموجب القانون، إلاّ ان هذا الفصل بين »ابناء الجليد« البيض وبين »ابناء الشمس« السود والاصطلاح اطلقه استاذ افريقي هو حقيقة يعترف بها الطرفان. ففي تحقيق نشرته صحيفة »واشنطن بوست« في 29 تشرين ثاني الماضي كشفت ان السود والبيض يتقسمون حتى تلفزيونيا، فالبرامج الشعبية لدى البيض لا يشاهدها السود، وبالعكس، وينقل التحقيق عن روبرت جونسون، وهو مدير تنفيذي في شبكة تلفزيون »سوداء« قوله »ان الناس باتوا اليوم في علاقاتهم الداخلية اكثر عنصرية عما كانوا عليه في السبعينيات والثمانينيات... وهذا جزء من التوجه القهري الجديد في هذا البلد«.
المهاجرون يرفعون علمهم
والفصل ليس بين الابيض والاسود فحسب، ففي نهاية العام الماضي طرحت ولاية كاليفورنيا اقتراحا يقضي بحرمان ابناء المقيمين غير الشرعيين في الولاية من حق الطبابة والتعليم، وفاز الاقتراح بنسبة عالية من اصوات الناخبين. غير ان الاسبان  الاميركيين نزلوا الى الشارع، نظموا تظاهرات رفعت علم المكسيك وليس العلم الاميركي، وطالبوا بمساواتهم مع جميع »المهاجرين«. اي بالاميركيين جميعا باستثناء الهنود الحمر. حاكم كاليفورنيا الجمهوري، صاحب الاقتراح، قال: »ان ولايتي لا تستطيع ان تدفع ثمن اخطاء الحكومة الاتحادية« وطلب الحاكم مبلغ 4 مليارات دولار من ميزانية الحكومة الاتحادية... مقابل ان يسحب اقتراحه. هو ما قاله الحاكم الاتحادي. »كاليفورنيا اولا...«.
كلهم »آميش«؟
ان الديموقراطية الاميركية، منذ نهاية الحرب الاهلية قبل قرن ونصف القرن تقريبا، كانت قادرة دائما ان تستوعب العنف، عنصريا كان ام دينيا، وان تصهر في بوتقتها جميع القبائل »انت تستطيع ان تهاجر الى اميركا وان تصبح اميركيا جيدا شرط ان تنظر دائما الى الامام، الى رفاهيتك الشخصية، وليس الى الخلف الى تاريخ اجدادك« قالها جون كوينسي آدم، احد »الآباء« المؤسسين للحضارة الاميركية، غير ان القاعدة انقلبت »ان الحفيد اليوم يحاول ان يتذكر ما يحاول الابن ان ينساه« يقولها المؤرخ ماركوس لي هانسن.
تقول الاحصاءات الرسمية ان ربع مليون اميركي سقطوا قتلى خلال العشر سنوات الاخيرة، في حروب شوارع ما زالت مستمرة، مقابل 300 ألف سقطوا في الحرب العالمية الثانية، وعندما وقعت مؤخرù جريمة
قتل في ولاية فيلادلفيا، حيث يستوطن »شعب الآميش« فإن الشرطة اضطرت الى
الاستعانة بمترجم من السفارة الالمانية للتحقيق، لان شعب الآميش الذي يتناثر عبر عدة ولايات
اميركية لا يتحدث إلا... الالمانية، رغم ان ابناءه كانوا من اوائل المهاجرين الى اميركا، وهم من البيض(!).
والنموذج يبدو متطرفا، وكذلك مجزرة اوكلاهوما وما تلاها ولعل ما فعلته المجزرة هو انها كشفت، كما احداث لوس انجلوس قبل سنتين، ان العنف الاجتماعي يمكن بسهولة ان يتحول الى عنف سياسي يحرق المراحل الفاصلة بين التاريخ والسياسة. متى وجد حتى في الكونغرس الاميركي المنتخب من يبشره بثورة العنف الثانية...« ان اميركا باتت قادرة على انتاج وحوشها...« كما تقول مجلة »تايم«.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق