الخميس، 21 يونيو 2012

رجل الأعمال الذي أوقف الحرب في كوسوفو: دبلوماسية الاقتصاد.. لا البوارج


(بيتر كاستنفيل) رجل أعمال لم يسمع الكثيرون باسمه, ومن سمع به لم يحفظه, فهو ليس اسما سينمائيا ولا نجوميا, ومع ذلك, ووفقاً لصحيفة (فايننشال تايمز) البريطانية, فقد كان هو الرجل الذي اوقف الحرب في كوسوفو . اذن, دبلوماسية الاقتصاد, وليس دبلوماسية البوارج هي التي حقنت الدماء في البلقان. قد يبدو هذا الاكتشاف غريبا, ولكن عندما نضعه في سياق الدور الذي يلعبه رجال الأعمال على مستوى العالم, يبدو طبيعيا ومنطقيا, على العكس تبدو دبلوماسية البوارج هي الاستثناء وليس القاعدة. بيتر رجل اعمال ولد في السويد, وكان (المبعوث السري) الذي وافقت روسيا ومعها الاتحاد الاوروبي على تكليفه بمهمة اقناع القائد الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش بالموافقة على عرض يخرج به ليس بماء وجهه فقط, بل بمكاسب تتجاوز اتفاق (رامبوييه) , مما يمكن ان يسميه (اختصاراً) يستحق الثمن الذي دفعه الصرب في المواجهة مع قوات حلف الاطلسي (!).
بيتر في الاصل يتعاطى (الدبلوماسية الاقتصادية) , عمل على مدى ست سنوات في مساعدة الحكومات الروسية المتعاقبة على مواجهة المؤسسات المالية الدولية وفي طليعتها صندوق النقد الدولي, فهو اذن كان موضع ثقة الروس, والرئيس بوريس يلتسين بالذات. ولان بيتر مولود في السويد, وهي واحدة من ثلاث بلدان اسكندنافية, فلم يكن صعبا عليه ان يكسب ثقة ممثل الاتحاد الاوروبي, رئيس فنلندا مارتي أهيتساري, في ان يقوم بالمهمة التي عجز القصف الجوي عن تنفيذها. الصرب: لم نكن نعلم مصدر مقرب من قيادة الاستخبارات الصربية روى لمراسل الصحيفة البريطانية تفاصيل (المعجزة) التي استطاع رجل الاعمال تحقيقها, وهي (لقد اوضح لنا, وللمرة الاولى, ما هي حقيقة الاوضاع. لم يخبرنا احد بذلك من قبل) . اي ان رجل الاعمال وحده, من بين الاف السياسيين والدبلوماسيين المحترفين والعسكريين, استطاع ان يقنع القائد الصربي ميلوسيفيتش بان يوقف بورصة الحرب ويبدأ الاستثمار في اسهم السلام فهي الاكثر ربحا وعوائد. كيف؟ يقول المصدر المقرب من الاستخبارات الصربية: حدث ذلك قبل ايام من التوصل الى اتفاق السلام في 3 يونيو, في بلجراد, بحضور الرئيس الفنلندي مارتي أهيتساري والمبعوث الروسي فيكتور تشيرنوميردين. لقد اوضح لنا بيتر ان الصفقة التي يعرضها, على غير ما تبدو في الظاهر, هي افضل بكثير مما طرحه حلف الاطلسي في اتفاق رامبوييه. ومع انها كانت تفاصيل صغيرة الا انها كانت تصنع فرقا كبيرا. فالصفقة تقضي بان يتولى مجلس الامن. وليس حلف الاطلسي, السيطرة على العمليات في كوسوفو, وهذا يعني بالنسبة لنا انه عندما لا نعود راغبين في التجديد للوجود الاطلسي فان روسيا والصين, وكلاهما صديق, جاهزان لاستخدام حق النقض (الفيتو) ومنع التجديد, ثم وهذا في منتهى الاهمية لن يكون هناك استفتاء في كوسوفو, بعد ثلاث سنوات, كما ينص اتفاق رامبوييه. كان الاستفتاء بالنسبة لنا مشروعاً مموها ينتهي بفصل الاقليم, وهذا ما دخلنا الحرب لمنعه, ثم ان قوات من الامم المتحدة, وليس الاطلسي فقط, سوف تشارك في حفظ السلام بعد نهاية الحرب, واكثر من ذلك, لقد نص اتفاق رامبوييه على الاعتراف بجيش تحرير كوسوفو, وهذا ما تتجاهله الاتفاقية الجديدة, وأخيرا ان القوات الروسية سوف تكون جزءا من القوات الدولية في كوسوفو, وهو ما لم يكن بمثل هذا الوضوح في السابق. سلّة وحزمة ويكشف القائد الامني الصربي: ان الضباط الروس الذين كانوا يرافقون المبعوث تشيرنوميردين انفجروا غضبا, واكثر من مرة, خلال محادثات السلام في بلجراد, بسبب تهميشهم, ولان تشيرنوميردين وافق في خلال المحادثات مع الاطلسي ان تشكل القوات الروسية (دعما) لقوات الحلف وليس جزءا منها. اذن تكشف الرواية الصربية, وتؤيدها الروايات الاوروبية, ان (المبعوث السري) السويدي نجح في تجميع (سلّة) من التنازلات الصغيرة, والتعديلات الطفيفة, وقدمها الى القائد الصربي ميلوسيفيتش باعتبارها تحقق ما لم يكن يحلم به. يقول رجل الاستخبارات: لم يبلغنا ذلك احد من قبل, كل ذلك كان مجهولاً بالنسبة لنا تماما. رجل الاعمال السويدي بالطبع لم يكن يدفع من رصيده, وليس من حسابه في البنك وهو كبير, ولكنه نجح, وعبر رحلات مكوكية شملت بلجراد وموسكو وبون وفنلندا, قابل خلالها عشرات المستشارين والمتخصصين, نجح في جمع سكة العملات المطلوبة, وحملها في رحلته الاخيرة, الى صوفيا ومنها انتقل عبر الحدود الى يوغسلافيا, وفي (ملجأ) التقى الرئيس الصربي ميلوسيفيتش, بينما غارات الطيران الاطلسي في ذروتها, وقدم له حزمة من ست اوراق فقط: بينما اعتمد على مخزونه من الدبلوماسية الاقتصادية لاقناع الرئيس بان الصفقة التي يعرضها هي (تسوية) وليست صك هزيمة.... ووافق ميلوسيفيتش. ويلخص مسؤول الماني, مقرب من المستشار شرويدر, وكان على اتصال دائم مع بيتر, وقوع المعجزة, فيقول: كان يتصل بنا من بلجراد احياناً, يطرح اسئلة محددة وصغيرة فنجيبه عنها, وكان يقدم معلومات صغيرة ايضا, ولكن منذ تلك اللحظات التي بدأ بيتر ينشط فيها صار لدينا فكرة كاملة التفاصيل عن المعضلات الرئيسية التي لابد ان نعيها ونستوعبها اذا شئنا الوصول الى اتفاقية) . العبرة في هذه الرواية ان هناك لازمة تتردد على لسان الابطال فيها وهي اننا لم نكن نعرف ذلك اي ان دبلوماسية البوارج كانت تفرض ان يتم الحوار بين الخصوم في الظلام, وان يجهل كل فريق ما يريده خصمه, ولكن عندما بدأت دبلوماسية الاقتصاد وتعرف كل منهما الى الاخر, فاذا الهوة بينهما ليست في الاتساع الذي كان يتخيله كل طرف... ووقعت المعجزة. ... ودور للشركات ومن دور رجال الاعمال في تحقيق السلام الى دور الشركات. (شركة دي بيرز) واحدة من اشهر واكبر الشركات في العالم, فهي تحتكر تقريبا تجارة الالماس, وكانت حركة (يونيتا) التي تقاتل الحكومة الشرعية في انغولا احد زبائنها الرئيسيين. الحركة بقيادة سافيمبي كانت في البداية مدعومة من نظام جنوب افريقيا العنصري, ومن (السي. آي. ايه) وكانت مهمتها جذب المتطوعين الى صفوفها والانخراط في حرب عصابات ضد النظام الشيوعي في انغولا الذي كان يتلقى المساعدات العسكرية من فيديل كاسترو, ونجحت (يونيتا) في تحرير مناطق في داخل انغولا, هي مناطق مناجم الالماس, ومن هذه المناجم كان يبلغ دخل الحركة السنوي حوالي 400 مليون دولار تكفي لجذب الاف المتطوعين للدفاع عن المناجم (!). ولكن بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار نظام الحكم العنصري في جنوب افريقيا, وانسحاب القوات الكوبية من انغولا تم الوصول الى تسوية, برعاية امريكية, لانهاء الحرب الاهلية, وتم توقيع اتفاقية تمنح (يونيتا) حصة كبيرة في السلطة, غير ان (سافيمبي) رفض حل قواته, وابقاها في منطقة المناجم, ورفض تنفيذ الاتفاق, وتدخلت امريكا, ومعها مجلس الامن ايضا, وفرضت قراراً يمنع تداول الالماس من انغولا اذا لم يكن مصدره الحكومة الشرعية, وهو قرار يهدف الى تجفيف منابع الثروة لدى يونيتا, واعادة قائدها سافيمبي الى بيت الطاعة الشرعي. هنا دخلت شركة (دي بيرز) على الخط, وبدأت مفاوضات مع يونيتا بهدف الوصول الى تسوية تحفظ للحكومة الشرعية وحدة البلاد, وللحركة حقوقا مكتسبة, وللشركة... مصالح تاريخية. المفاوضات مستمرة ودبلوماسية الألماس نادراً ما تفشل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق