قضايا صغيرة: التاريخ: 27 أغسطس 1999
الجيش و.. البنك عنوان يلخص المفارقات التي عاشتها تركيا, ومازالت, اثر الزلزال المدمر, ويكشف كيف ان دول العالم الثالث, وتركيا من بينها, تعاني من صدوع سياسية واجتماعية تتجمع على مستوى القاعدة وتتناطح فيما بينها , وتشكل حزاما محتملا لكل انواع الزلازل السياسية والاجتماعية, وهذه اخطر من الزلازل الطبيعية, وابعد مدى في تأثيرها على مستقبل الوطن: ارضا وشعبا وسلطة. جبهتان الاعلام التركي, ومنذ الايام الاولى للزلزال, فتح معركة على جبهتين, جبهة المقاولين وجبهة الجيش, ومع ان المقاولات هي قطاع خاص وأهلي, او هكذا يفترض, فانها في تركيا جزء من المؤسسة الحاكمة, وخلف كل مشروع تطرحه الدولة للتنفيذ, عبر مناقصات رسمية, يقف ضابط أو وزير أو مدير..
وهذه احدى الصور التقليدية للعالم الثالث. وكما ان الجيش يتوزع في مجموعة من الاسلحة البرية والبحرية والطيران, فان شركات المقاولات في تركيا, وفقا لتقارير وابحاث غربية, تتوزع بدورها على تلك الاسلحة, فسلاح البحرية هو الواجهة لشركات مقاولات معروفة, تتشكل مجالس ادارتها الفعلية من الجنرالات كبار الضباط, ومثله الجيوش البرية وسلاح الطيران, وهذا يحدث في الغرب ايضا, ولكن بشكل معاكس, فالشركات في الغرب, وهي جزء من المجتمع المدني تعيش على حساب السلطة ووزارة الدفاع جزء منها, أما في تركيا, وفي دول العالم الثالث, فإن السلطة والجنرالات في طليعتها, عندما يكون العسكر هم الحاكم الفعلي, فهم الذين يعتاشون على حساب الشركات, ومن بينهم شركات المقاولات, وهذه في تركيا تكاد تضاهي شركات تصنيع الأسلحة في الغرب. أين الجيش؟ وبالطبع فإن فتح الجبهة الاعلامية ضد شركات المقاولات وهي الامتداد الفاسد للعسكر, كان يستدعي فتح المعركة ضد الجيش مباشرة, وهو ما حدث, وقد وفر الجيش الفرصة عندما انصبت جهوده, قيادة وأفراداً ومعهم طاقم الخبراء الاسرائيلي, على محاولة انقاذ الضباط في قاعدة ازميت البحرية, وخرجت الفضيحة الى العالم كله وبالصوت والصورة, عندما لاحظت فرق الانقاذ الغربية غياب الجيش عن المواقع المنكوبة بالزلزال, خلال الأيام الثلاثة الأولى , وتحدث أكثر من عضو في فرق الانقاذ عن هذا الغياب (المرعب) للجيش على حد قول أحد الأعضاء, أما المواطنون الأتراك فلم يملكوا إلا ان يصرخوا: ان أحداً لم يتقدم لمساعدتنا! وكان مشهد المواطنين المدنيين وهم يرفعون الأنقاض بأيديهم صاعقاً في دلالاته, خاصة عندما عرضت شاشات التلفزيون لقطات لفتيات وسيدات محجبات يتراكضن في كل اتجاه لتقديم المساعدة, بينما كانت مهمة الجنرالات قبل الزلزال وبعده مطاردة هؤلاء المحجبات في الشوارع والجامعات وتحت قبة البرلمان. الأكثر دلالة في هذا السياق كان اندفاع الحكومة اليونانية والمؤسسات الأهلية باليونان وبحماسة شديدة إلى ارسال المتطوعين والمساعدات بما فيها الطائرات لمكافحة الحرائق, وكان مشهد (العدو) اليوناني وهو يكافح النيران في مصفاة النفط المحترقة, أو وهو يبحث في فتحات الأنقاض عن ضحية ينتشلها يقول الكثير. صورة مشرقة وفي مقابل هذه الصورة المعتمة تشرق صورة نقيضة للمجتمع المدني وللقطاع الخاص بالذات, ونقرأ في صحيفة (وول ستريت جورنال) الأمريكية الاقتصادية تقريراً من اسطنبول يصف عمل القطاع الأهلي في ذورة الكارثة. يقول التقرير ان شركات القطاع الأهلي واجهت الكارثة برباطة جأش وبقدرة عجيبة على تجاوزها, ان (بنك يابي كردي) مثلاً لم يضيع إلا يوم عمل واحدًا في جميع فروعه وعددها 431 فرعا, مع ان نصف هذه الفروع يقع في منطقة الزلزال. وقد جلب الموظفون معهم مولدات كهرباء ودشات الاتصال, كما استبدلوا بعض آلات النقود المعطلة, واستمر تبادل بيع الأسهم وتداولها في البورصة, مع التوقعات بزيادة التضخم, والمهم في كل هذا ان البنك نجح في تلبية الحاجات الملحة للزبائن في ذروة الأزمة. ولا حاجة لأي خيال لاكتشاف مدى حاجة الزبون إلى النقود في تلك اللحظات التي غادر فيها الناس منازلهم على عجل ليكتشفوا فيما بعد انها تحولت إلى أنقاض وانهم لا يملكون من دنياهم سوى ما يستطيع البنك ان يوفره لهم في احرج الاوقات. القطاع الخاص .. أملنا ولعل هذه المفارقة بين فساد وغياب المؤسسات الرسمية, بما فيها العسكر, وتلك الحيوية والنشاط في مؤسسات المجتمع الاهلي, بينما الكارثة في ذروتها, هي ما دفع رئيس الوزراء التركي بولنت اجاويد, إلى التأكيد, وبثقة شديدة: ان القطاع الخاص, واصحاب المبادرات الفردية من المستثمرين هم أملنا في انقاذ الاقتصاد التركي وتجاوز محنته. ولم يخيب رئيس غرفة الصناعة في اسطنبول حسام الدين كافي امل رئيس وزرائه, اذ سارع إلى الاعلان بأن الصناعة التي تزود تركيا بثلث الدخل القومي سنويا قادرة على تجاوز المحنة في مدة اقصاها اسبوع, قال حسام الدين: ان كل يوم توقف عن العمل يكلف الصناعة في المنطقة المنكوبة نحو 200 مليون دولار, ان ابنية المصانع مازالت متماسكة وقوية, ولكن هناك بعض الصدوع والشروخ في خطوط الانتاج, ان اسبوعا واحدا يكفي لاعادة عملية الانتاج إلى الدوران. اما محافظ البنك المركزي اركان يوكوغلو, وبعد ان لاحظ قدرة البنوك وشركات القطاع الخاص على تجاوز المحنة, فقد اعرب بدوره عن تفاؤل غير عادي عندما توقع ان تحقق تركيا الهدف الاقتصادي الذي وضعته وهو زيادة في النمو تصل إلى خمسة بالمائة... ان هدفنا سوف يتحقق. ولعل تصريحات من هذا النوع, عندما تتم قراءتها, على خلفية خسائر تزيد ارقامها عن 25 مليار دولار, تبدو انها لا تفتقر إلى المبالغة, غير ان محافظ البنك المركزي يشير إلى ان معظم هذه الخسائر وقعت في القطاع الخاص, ولم تتجاوز خسائر الدولة, أو القطاع العام مبلغا يتراوح بين 5 إلى 7 مليارات دولار, اي ان القطاع الخاص, وهو الخاسر الاكبر في الزلازل, مازال قادرا على ان يحقق التنمية المطلوبة. المجتمع المدني ان كارثة الزلزال في تركيا هي واحدة من اقسى النكبات التي تحيق بشعب في هذا القرن, وهي قضاء وقدر, لا راد لهما, اما النتائج والتداعيات فانها من صنع البشر, وهي قابلة للتغيير, وهذه النتائج تستحق الكثير من البحث والدراسات والتدقيق, تحت عناوين مختلفة, ابرزها: ان المجتمع المدني كان قادرا وباستمرار على التقاط رياح العصر والتكيف معها متى اتيحت له الفرصة, والقطاع الخاص هو الابن الشرعي لهذا المجتمع المدني, ومأساة هذا المجتمع ليست في الزلازل الطبيعية وحدها, بل عندما يصطدم بسلطة تنتمي إلى الماضي بينما هو يبني المستقبل, وتحاول ان تؤسس, على عقلية الماضي, بناء يحاصر هذا المجتمع, والنتائج معروفة, اضطرابات مستمرة تعطل قدرات هذا المجتمع وتمنع ازدهاره, وتبقيه فوق خط.. الزلازل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق