الجمعة، 25 مايو 2012

صحوة غذائية تطلق ثورة سياسية في العالم الصناعي.. العودة إلـى الطبيعة

الملف السياسي ـ التاريخ:

إحذر هذا الحساء فإنه يؤدي الى اغتيالك.. جنسياً, واحذر ان تتناول سمكة كاملة لأنها مشحونة بالزئبق القاتل. أما لحم البقر فأنت تعرف انه يصيبك بالجنون. ولكن ماذا عن المضادت الحيوية, انها اعظم علاج اكتشفه الانسان؟ على العكس انها تقوم بتطوير انواع من الجراثيم لا ينفع في علاجها اي مضاد حيوي. اذن ما هو الحل؟ الجواب معروف: العودة الى الطبيعة, وهذا قرار سياسي وليس وصفة طبية. وبداية من الحساء, فقد قدمت شركة (هينز) يوم 10 فبراير الماضي اعتذاراً علنياً للمستهلكين, بعد حملة قامت بها مجموعة من (أصدقاء الأرض) بقيادة الطبيب مايكل ويرهبرست ضد الشركة لأنها تستعمل في طلاء معلباتها مادة يطلق عليها (بسفينول آي) وتؤدي الى العقم المبكر لدى النساء والى تقليص الهرمونات الذكورية لدى الرجال. وفقاً لدراسة قامت بها مراكز أبحاث امريكية في العام ,1999 اجرت خلالها اختبارات على الفئران, تبيّن بنتيجتها التأثير الضار لتلك المادة التي لا تستخدم فقط في معلبات الحساء بل في صنع انواع من زجاجات الحليب لدى الاطفال (!).
الشركة قالت في اعتذارها انها تستعمل كمية ربما لا تزيد على واحد من المليار من المادة المذكورة, وبالتالي فإنها لا تؤدي الى الاصابة بأية اضرار, ولكن الطبيب من جماعة اصدقاء الارض قال: إننا لا نتحدث عن علبة واحدة, إذ ان كثيرين من الناس يتناولون النوع نفسه من الحساء يومياً, وهذا يؤدي الى تراكم المادة. سمك وبط وزئبق ومن الحساء الى الاسماك, ففي بريطانيا بالذات, وفي بعض ولايات أمريكا, فإن جماعات البيئة المدعومة في تمويلها من الحكومة تقوم بطبع كتيبات سنوية تحذر فيها من تناول سمكة كاملة من الانواع النهرية, بعد ان تبين وجود كميات كبيرة من الزئبق في ما يزيد على 30 نهراً في بريطانيا, وعدد أكبر في أمريكا, وقد استطاعت الاسماك في تلك الانهار ان تتعايش مع المخلفات الصناعية التي تصب فيها, ومن بينها الزئبق, وقامت بتخزينه في اجسامها, وبالتالي فإن كمية الزئبق الموجودة في سمكة كاملة يمكن أن تؤدي الى التسمم, ومن هنا فإنك اذا كنت تحب السمك النهري فعليك ان تكتفي بنصف سمكة أو أقل. وما يصح على السمك يصح على البط البري الذي بات بدوره يملك قدرة على تخزين كميات من الزئبق ومواد كيماوية اخرى في لحمه, ولأن الصيادين عادة مهووسون بصيد البط البري فإن جمعيات البيئة تنصحهم ان يكتفوا بتناول قطعة واحدة من البط وان يتركوا البقية لأفراد العائلة (!). جنون وصحوة أما جنون البقر فأمره معروف, فهو يكاد يصيب أوروبا كلها بالجنون, باستثناء ألمانيا, فهذه الدولة بعد ان اكتشفت ان جنون البقر انتقل اليها استعادت العقل والروح, وهذا يستحق أكثر من وقفة, لأنه أطلق أكثر من قنبلة سياسية وفي اتجاهات مختلفة وما زالت تداعياتها مستمرة. جنون البقر في ألمانيا بدأ بفضيحة أطاحت وزيرين هما وزير الزراعة ووزير الصحة, مع أن الألمان لم يكتشفوا أكثر من 28 حالة من الأبقار المجنونة لديهم, وهو رقم هزيل مقارنة بما يزيد على 180 ألف حالة تم اكتشافها في بريطانيا. أسباب الفضيحة هي ان الحكومة الألمانية كانت تعتبر انها اتخذت من الاجراءات الوقائية ما يكفي لمنحها المناعة في مواجهة الجنون البقري الذي يعصف بأوروبا وفي ثلاثة اقاليم مختلفة في العالم, كما تقول تقارير الأمم المتحدة, وعندما بدأت اعراض الجنون تظهر على البقر الألماني فإن وزيري الزراعة والصحة اعتمدا سياسة التعتيم والتقليل من أهمية الاصابات, إلاّ أن حزب الخضر المشارك في الحكومة كان بالمرصاد, فاستنفر قياداته وقواعده وفجر قنابله فأصابت الوزيرين وأودت الى استقالتهما من الحكومة, وكانت تلك نهاية الفصل الأول, أما الفصل الثاني فقد بدأ في مطلع فبراير الماضي عندما اعلن المستشار الألماني جيرهارد شرويدر عن استحداث (وزارة الزراعة والاستهلاك) وأوكلها الى ابرز قيادات حزب الخضر وهي رينيه كونسات (45 عاما). وفي اول اطلالة لها لتحدد سياساتها المقبلة تحولت كونسات الى نجم يسطع في سماء اوروبا وأمريكا أيضاً, واحتلت صورها وتصريحاتها مقدمات الانباء وصفحات الصحف الاقتصادية الرصينة من (فايننشيال تايمز) في بريطانيا وصولاً الى (وول ستريت جورنال) في أمريكا مروراً بشبكات التلفزة العالمية. ورسالة السيدة الخضراء كانت واضحة وهي: لا بُدّ ان نعود في غذائنا الى الطبيعة, كما كان يفعل الاجداد. أما الترجمة العملية لهذه الرسالة فهي اعلان كونسات عن خطة للسنوات المقبلة تقضي برفع انتاج ألمانيا من الزراعة العضوية الى 20% من الناتج الزراعي في البلاد, وهو حالياً يتراوح بين اثنين الى ثلاثة في المئة فقط, وما يصح على الزراعة (البلدية) يصح ايضاً على الحيوانات, وبالطبع فإن هذه الخطة الطموحة تتكلف عشرات المليارات من الماركات غير ان دافع الضرائب الألماني الذي أعرب في استفتاء جرى مؤخراً عن عدم ثقته بما يأكله, استقبل الخطة بحماسة شديدة, ولم تقتصر هذه الحماسة على ألمانيا وحدها إذ امتدت عدواها لتشمل أوروبا كلها, وفرنسا بالذات, أما في الولايات المتحدة فقد خصصت مجلة (نيوزويك) غلافها الأخير للحديث عن هذه الثورة العضوية التي بدأت تجتاح دول وشعوب العالم الصناعي وتعيدها الى الطبيعة. آسيا وهجرة البكتيريا وهذه الثورة ترافقت مع ثورة مماثلة في آسيا, ولكن بالاتجاه المعاكس. ففي تقرير من هونج كونج نشرته صحيفة (هيرالد تريبيون) الدولية في فبراير الماضي, وردت المعلومات التالية: إن معظم الحميات الوبائية مصدرها آسيا, أبرز هذه الحميات هي (الانفلونزا) ومنها انفلونزا هونج كونج 1968 ـ ,1969 والانفلونزا الآسيوية 1957 ـ , 1958 أما اشدها فتكاً فكانت الانفلونزا الاسبانية وقد قتلت 20 مليون شخص بين عامي 1918 ـ ,1919 ومصدر هذه الحمى, كما يقول العلماء هو آسيا. ومع أن كثيراً من الغموض كان يحيط بوسائل نقل الفيروسات العابرة للقارات فإن الابحاث الميدانية والمختبرية عبر عشرات السنين ربطت بين انتقال هذه الفيروسات المسببة للحميات وبين هجرة الطيور الموسمية عبر القارات, وأبرز النظريات الشائعة في هذا المجال هي أن فيروسات الانفلونزا تنتقل من الحيوان الى الانسان, وبما أن شعوباً كثيرة في آسيا ما زالت تعيش مع حيواناتها على الطبيعة, وخاصة في فصل الشتاء, فتنام معها تحت سقف واحد وعلى مدى شهور, فإن تلك الفيروسات تنتقل من الدجاج والخنازير والبقر لتستوطن اجساد البشر, وتصل الطيور المهاجرة لتحملها الى مواطن لم تعرف هذه الامراض من قبل, وتلك هي المقدمة فحسب, اذ ان الغرب الصناعي كان ينجح غالباً في السيطرة على المرضى عبر استخدام المضادات الحيوية, ولكن الجديد في الأمر هو ان هذه المضادات فقدت مفعولها وتبيّن ان هناك انواعاً من البكتيريا المصاحبة لهذه الحميات باتت تملك بدورها مناعة لا تنفع معها المضادات الحيوية. ويختلف العلماء حول اسباب هذه الظاهرة فبعضهم ينسبها الى سوء استخدام المضادات الحيوية من قبل الاطباء, فهم يسرفون في وضعها للمرضى! أما بدافع الجهل أو بدافع قبض العمولة من موزعي الدواء... وهو ما يلغي مفعولها لأن هناك انواعاً من البكتيريا نجحت في تطوير دفاعاتها ضدها, وبعض آخر من العلماء يرى ان الاسراف في استخدام المبيدات والمواد الكيماوية في الزراعة هو المسئول الأول عن تكوين السلالات الجرثومية المقاومة للمضادات, وفي الحالتين فإن الثورة العضوية الخضراء في أوروبا تلتقي مع الثورة الآسيوية في ضرورة اعادة التوازن للطبيعة وفي الدعوة الى الصحوة الغذائية باعتبارها مفتاح المرض والعافية. بقلم: شوقي رافع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق