الأربعاء، 23 مايو 2012

حفظ السلام الدولي من مهمات القطاع الخاص... المـرتـزقـة

الملف السياسي ـ التاريخ:

الحرس الشخصي هو البديل عن قوات الامن، والمرتزقة هم البديل عن الجيوش الوطنية وبينما تنمو شركات الامن في الغرب بسرعة فلكية فإنها في الشرق تتحول الى شركات عائلية، وهو ما يصنع الفرق بين النظام العالمي الجديد و.. الانظمة التي لم تتحول دولاً بعد وتعيش مرحلة ما دون الوطنية. الجيوش المرتزقة ظاهرة قديمة تغور عميقا في التاريخ، فالامبراطورية الرومانية كانت تصادر الشبان في البلدان المفتوحة، وتزجهم في حروبها الامبراطورية، ولم يكن لاولئك الشبان في تلك الحروب لا ناقة ولا جمل ولم يكونوا متطوعين ولكنهم كانوا يشكلون جيوشاً من المرتزقة ليس لكسب قوتهم ولكن دفاعاً عن حياتهم، وحافظت الامبراطورية العثمانية على ذلك التراث الروماني ودفعت بالشبان العرب في حروب جاوزت بلاد البلقان ولم يكن هؤلاء متطوعين بل مقاتلين بالسخرة ومصيرهم اذا لم يحاربوا الموت في كل الاحوال، وبعد اجتياح الجيوش الايطالية ليبيا قتل آلاف الشبان من ابنائها في حرب تبعد آلاف الاميال عن وطنهم. وباستثناء جزر صغيرة في افريقيا مازالت تحافظ على هذا التراث من القتال بالسخرة فتخطف الاطفال او الشبان من قبائل اخرى وتحولهم الى محاربين في صفوفها فإن هذا التراث للجيوش غير الوطنية يكاد ينقرض بشكله البدائي بعد ان اخذ يكتسب ملامح الحياة العصرية وتحول الى شركات تجارية تقوم بانشاء جيوشها الخاصة والمحترفة وترسلهم الى الجبهات بموجب عقود رسمية تعترف بها الحكومات، وتفرض الضرائب على ارباحها، مع ان نشاطات تلك الشركات هي اقرب الى التجارة بالدماء.
من الفاتيكان الى البوسنة وعلى نطاق الدول فإن دولة الفاتيكان كانت هي الرائدة في استخدام جيش من المرتزقة، معظم افراده من سويسرا لحماية حدودها و.. البابا، وهو تقليد مازالت تمارسه حتى اليوم، ويعتبر الحرس السويسري اكثر النماذج نجاحاً للجيوش المرتزقة التي تقوم بمهماتها لاسباب لا علاقة لها بالدين او بالوطنية. نموذج آخر يطرحه المعلق الامريكي سيباستيان مالاي في صحيفة «واشنطن بوست» الامريكية فيشير الى انه في مطلع الثمانينيات كانت دولة موزمبيق في افريقيا ارضا محرمة، اذ كانت العصابات المسلحة تتحكم في الارياف خارج المدن وتحيلها الى ارض محروقة، وفي تلك الفترة قررت شركة «لونر هو» للمنسوجات استثمار ارض شاسعة في موزمبيق وتحويلها الى مزارع للقطن، ودعمت عقدها مع الحكومة بعقد آخر مع شركة بريطانية للامن قامت بتزويدها بجيش من المرتزقة لحماية مزارعها ومنشآتها ونجحت التجربة وفق المقاييس التي طرحتها الشركة، غير ان المعلق الامريكي يغفل هنا ذكر استخدام القوة المفرطة من قبل المرتزقة ضد سكان الريف الافارقة، بزعم محاربة العصابات المسلحة، كما اشارت في حينه منظمات لحقوق الانسان تعمل في افريقيا، وهو ما تكرر مؤخراً في البوسنة، حيث كشفت صحيفة «واشنطن بوست» عن تجاوزات عديدة ترتكبها قوات الشرطة التي قامت بتجنيدها شركة «داين كورب» الامنية بناء على عقد مع حكومة البوسنة وبتوصية امريكية وتبين ان هذه القوات من الشرطة تضم عناصر تحتاج الى قوة من الشرطة لمراقبتها وضبط سلوكها. انهم ارخص ومع ذلك فإن المعلق الامريكي يتابع دفاعه عن المرتزقة ويشير الى انه بين عامي 1995 ـ 1997 نجحت شركة امنية من جنوب افريقيا في دفع المتمردين على الحكومة في دولة سيراليون الافريقية الى مائدة المفاوضات بعد ان خاض جيش من المرتزقة تعاقدت معه حرب استنزاف ضد المتمردين ادت الى انهاكهم وقد تقاضت الشركة مبلغ 1.2 مليون دولار سنويا، مقابل هذه المهمة، ومؤخرا اوكلت هذه المهمة الى قوات الامم المتحدة ولكن مقابل مبلغ يصل الى 47 مليون دولار شهرياَ. ويقول المعلق ان المذبحة التي انزلتها الميليشيات في الصومال بالقوات الامريكية دفعت الدول الغنية الى الامتناع عن ارسال اية قوات لحفظ السلام الى افريقيا حتى لمنع حرب ابادة قبل وقوعها في رواندا وهو ما ادى الى ازهاق عشرات الآلاف من ارواح الافارقة، وقد انتهى الامر بهذه الدول ان تدفع مبالغ محترمة لدول افريقية مثل نيجيريا مقابل ان ترسل جنودها لمحاربة المتمردين او لحفظ السلام مع ان سجل القوات الافريقية في احترام حقوق الانسان اثناء الحرب يكشف عن انتهاكات كبيرة. وينتهي المعلق الى التأكيد على ان الولايات المتحدة وهي القوة العظمى تنفق على الشركات الامنية الخاصة ضعف ما تنفقه على جميع اجهزة الشرطة الرسمية، وبالتالي فإن الاستعانة بالجيوش المرتزقة لحفظ السلام في المناطق المضطربة هي احدى الوسائل التي لابد ان تلجأ الامم المتحدة لاستخدامها اذا شاءت القيام بدورها كاملا في المستقبل. وهذا الحوار في الغرب ينتهي الى ضرورة اسناد مهمة الامن الدولي ميدانيا الى القطاع الخاص، اي تخصيص قوات حفظ السلام الدولية (!). الامن الشخصي هذا على مستوى الدول اما على مستوى الافراد فإن ظاهرة الحرس الشخصي في الغرب تنمو بسرعة قياسية حيث تقوم الشركات الامنية بتوفير الحماية لمنشآت الشركات ولقياداتها سواء في مكاتبهم اومنازلهم او اثناء سفرهم وقد توسعت اعمال هذه الشركات فباتت توقع عقوداً مع احياء او مناطق معينة في المدن الكبيرة، حيث تتكاثر حوادث القتل والسطو المسلح وتتولى بعيدا عن قوات الشرطة الرسمية، حماية تلك الاحياء والمناطق لقاء مبلغ معين والقاء القبض على المجرمين وتسليمهم الى الجهات الرسمية، بل اكثر من ذلك فإن شركات الامن في الولايات المتحدة، قامت بانشاء سجون مجهزة، وتعاقدت مع بعض الولايات على ايواء المجرمين غير الخطرين في تلك السجون وبالتالي تحولت تلك السجون الى ما يشبه الصناعة الفندقية ولم تعد شركات الامن تقوم بحماية العميل واعتقال المجرم فقط بل بايداعه في سجونها الخاصة ايضا. وهذا التطور لمفهوم الامن الدولي والفردي في الغرب يتجاوز الحدود والسيادة الى ما فوق الدول، فالقطاع الخاص، كما هو معروف عابر للقارات، ودوافعه ليست وطنية ولا دينية ولا قومية بل تجارية، وهو يتعامل مع الجيوش والافراد المرتزقة باعتبارهم وكلاء مبيعات يتولون تسويق سلعة معينة وان بأسلوب مبتكر ومحفوف بالمخاطر. الارتزاق عندنا قبيلة وحزب اما في البلدان النامية، ونحن من بينها فإن التجنيد الالزامي في بعض هذه الدول، وفي غياب الديمقراطية والمشاركة في تنظيمات المجتمع المدني، فإن التجنيد الالزامي يقترب من التراث الروماني ويتحول الى قتال، أو الى عمل بالسخرة، وهم يتقاضون رواتب هزيلة ولا يملكون اي حقوق او امتيازات، لان الحاكم في هذه البلدان غالبا ما يلجأ الى قبيلته او عشيرته او عائلته لتوفير الحرس الشخصي له، ومن هذه القبيلة او العشيرة يختار قيادات «حزبه» الحاكم ويمنحهم الصلاحيات والامتيازات ويشكل هؤلاء الجيش الحقيقي للحاكم وقلعته المنيعة، وهذا الجيش يرتبط مصيره بالحاكم ويكون ولاؤه لشخصه وليس للوطن، وبالتالي فهو يحمل كل تراث الارتزاق من ناحية بينما في الوقت نفسه يكتسب وجهاً عصرياً، فالحاكم هو رئيس مجلس الادارة في شركة امنية بينما الجيش الوطني، وفي حال السلام يتحول الى قوة هامشية، كما في جيوش الرومان. واذا كان التطور في الغرب على صعيد الامن الدولي والشخصي يقود الى ما هو فوق الدولة، فإن ما يحدث في عالمنا هو النقيض حيث المرتزقة سواء كانوا حزبيين او مسئولين عسكريين وأمنيين يلعبون دوراً يقّوض مؤسسات الدولة ويعيدونها الى القبيلة او العشيرة او العائلة.. ولعل هذا اسوأ انواع الارتزاق لانه في النهاية يلغي امن الوطن. بقلم: شوقي رافع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق