الجمعة، 11 مايو 2012

من السل إلى ذبابة المتوسط إلى الانتراكس، الحرب الجرثومية الثالثة

الملف السياسي ـ حكايات سياسية ـ التاريخ:

«الجمرة الخبيثة» هي الحرب الجرثومية الثالثة في الساحة الامريكية، سبقتها حرب جرثومة السل التي حملها المستوطنون البيض الى الهنود الحمر، ثم تبعتها حرب حشرية سلاحها «ذبابة المتوسط» التي صدرتها الولايات المتحدة الى كوبا للقضاء على زراعتها من الحمضيات فارتدت عليها وعادت الحشرة الى ولاية فلوريدا.
الجمرة الخبيثة كانت اسما لمرض فتحولت عنوانا لارهاب تتجول اشباحه في كل مدينة امريكية 10 ضحايا فقط سقطوا حتى منتصف الاسبوع الماضي ضحية للانتراكس المتجول في ولاية فلوريدا جنوبا ونيويورك شرقا وصولا الى نيفادا في الغرب الامريكي، لكن الرعب من هذا المرض اوقع الملايين في اسره، وهو يهدد بأن يتحول الى هيستريا جماعية ترى في كل علبة بريد جثة او كفنا. بدأت ضد الهنود الحمر والحرب الجرثومية فوق الاراضي الامريكية ليست جديدة، فالتلاميذ في المدارس الامريكية يحفظون في تاريخهم حكاية شهيرة عن المستوطنين الاوائل الذين نزلوا في منطقة نيويورك على الساحل الشرقي حيث استقبلهم الهنود الحمر، وهم سكان امريكا الاصليون، وعلموهم زراعة الذرة، وهي الغذاء الرئيسي في تلك الفترة، وكانت مكافأتهم ان هؤلاء المستوطنين قدموا لهم هدايا من بينها حرامات صوفية موبوءة بجراثيم مرض السل القاتل، ولم يكن له علاج في تلك الفترة، فقضى على القبائل الهندية المقيمة، وفوق انقاض القرى الهندية المهجورة اقيمت مدينة «نيوامستردام» التي تحولت فيما بعد الى نيويورك كما يحفظ تلاميذ امريكا ان جزيرة مانهاتن حيث وقعت الانفجارات الاخيرة كانت ملكا للهنود الحمر قبل ان يشتريها المستوطن الابيض بيترميتون منهم مقابل ما يساوي مبلغ 24 دولارا فقط من الخرز والازرار والعقود الرخيصة. ولا يزيد عدد الهنود الحمر في ولاية نيويورك حاليا على 27 الفا معظمهم يقيم في مستوطنات تقع في نيويورك العليا، وقد تحول معظمها الى كازينوهات لالعاب القمار، ومع ذلك فانهم مازالوا يذكرون ان اجدادهم كانوا اول ضحايا لحرب جرثومية تقع فوق اراضي الولايات المتحدة قبل حوالي 360 عاما. كيف نقتل العرق الاصفر؟ وفي التاريخ الحديث فقد ايقظت حرب فيتنام وقد حصدت مايزيد على 58 الف امريكي، ذاكرة الحرب الجرثومية من سباتها، ووفقا لتقارير موثقة نشرتها مجلة «كاونتر سباي» الامريكية وهي مجلة تعنى بالجاسوسية المضادة، فقد حاولت الولايات المتحدة خلال تلك الحرب، تركيب سلاح بيولوجي فريد من نوعه يمكنه ان يقضي في ميدان المعارك على الثوار الفيتناميين ويوفر الجنود الامريكيين في ساحة القتال نفسها، ووفقا للمجلة فان البنتاجون تعاقد مع عدد من المختبرات لاكتشاف الفرق في «الانزيمات» بين العرق الابيض الامريكي والعرق الاصفر الفيتنامي، وبعد ان نجحت المختبرات في تحديد تلك الفروقات بين انزيم الرجل الابيض والاصفر بدأ البحث عن السلاح البيولوجي المناسب اي السلاح الذي يمكن ان تجذبه انزيمات الرجل الاصفر وحدها فتصبح هدفا له، بينما توفر في الوقت نفسه اصابة الرجل الابيض لان انزيماته غير جاذبة. وليس من المعروف ما اذا كانت نهاية الحرب في فيتنام قد اوقفت هذا المشروع، ولكن من المعروف ان ادارة الرئيس جورج بوش الابن رفضت المصادقة على المعاهدة الدولية لتحريم الاسلحة الكيماوية والبيولوجية. ذبابة المتوسط حرب فيتنام وقد استخدمت الولايات المتحدة فيها الاسلحة الكيماوية بكثافة كبيرة وخاصة عنصر «اورانج» وهو يؤدي للاصابة بالسرطان وقعت خارج الارض الامريكية ولكن هذا لم يمنع اصابة الطيارين الامريكيين الذين استخدموا هذا السلاح ونشروه فوق غابات فيتنام من الاصابة بالسرطان فاقاموا دعاوى امام المحاكم الامريكية وحصلوا على تعويضات وقد تابع الشعب الامريكي هذه القضايا واختزن في ذاكرته ابعاد الحرب البيولوجية حتى ولو كانت بعيدة عن ارضه. والامر نفسه حدث مع «ذبابة المتوسط»، وهي تنسب الى حوض البحر الابيض المتوسط، ففي مطلع الستينيات من القرن الماضي بلغت المعركة ذروتها بين الولايات المتحدة وفيديل كاسترو في كوبا، كاسترو الثائر اليساري عندما اقتحم العاصمة هافانا مع رفيقه تشي جيفارا، وطرد الديكتاتور باتيستا من الحكم، كان اول ما فعله ان جمد الارصدة الامريكية وصادر المزارع والكازينوهات التي يملكها الامريكيون، واعلن تحالفه مع الرئيس الروسي نيكيتا خروشوف، الرئيس الامريكي دوايت ايزنهاور وهو جنرال من ابطال الحرب العالمية الثانية قرر غزو كوبا لطرد كاسترو ولكنه فشل في انتخابات الرئاسة فتولى السلطة بعده الرئيس جون كيندي وفي 17 ابريل من العام 1961 فتح الرئيس كيندي الضوء الاخضر امام غزو كوبا بجيش من المنفيين الكوبيين لايزيد عدده على 2000 عنصر انطلقوا من ولاية فلوريدا، وكان كاسترو وقواته في انتظارهم في «خليج الخنازير» ولم تستغرق المعركة سوى ساعات اعلن كاسترو بعدها انتصاره على امريكا، وعلى وكالة الاستخبارات المركزية (سي. آي. ايه) التي خططت للغزو الفاشل. بعدها وقعت ازمة الصواريخ الروسية في كوبا وقد استطاع الرئيس كيندي كسبها في سبعة ايام هزت العالم لان المواجهة النووية بين الدولتين كادت تتحول من احتمال الى واقع، غير ان الاتفاق بين الدولتين العظميين في تلك الفترة كان يعني تثبيت كاسترو في السلطة ومنع محاولات غزو الجزيرة برعاية امريكية. ووفقا لتقارير تداولتها وسائل الاعلام الامريكية في مطلع الثمانينيات، فان وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية قررت غزو كوبا ولكن ليس بواسطة الكوبيين المناهضين لكاسترو بل عبر جيوش من «ذباب المتوسط» يطلقونها على الجزيرة فتقضي على زراعة الحمضيات فيها بعد ان قضوا على زراعة قصب السكر .. وهو ما يعني افلاس فيديل كاسترو. وهكذا انطلقت غواصة امريكية ذات ليل لتقذف بشحنتها من ذباب المتوسط على سواحل كوبا، ونجحت الخطة وصار البرتقال الكوبي حلم ليلة صيف، بعد ان افترسته ذبابة المتوسط. ولكن ولاية فلوريدا التي تعتبر ان الحمضيات هي ثروتها الرئيسية، فوجئت بعد شهور، بان ذبابة المتوسط حطت رحالها في مزارعها وان الخسائر تقدر بالمليارات. حرب ثمنها طابع بريد الحرب الجرثومية اليوم وسلاحها «الانتراكس» تتجاوز حدود الخيال، فهي لا تحتاج الى غواصات ولا الى صواريخ بل الى طابع بريد رخيص ومغلف يمكن ان يتحول الى اكفان وعلى بعد آلاف الكيلومترات. ما فائدة الجيوش اذن؟ يقول الرئيس بوش: انها حرب غير تقليدية .. وقد اصاب. بقلم: شوقي رافع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق