الأحد، 13 مايو 2012

٤٠٠ لاجئ ضاقت بهم القرية الكونية، «نورو» عنوان الفضيحة

الملف السياسي ـ التاريخ:

«نورو» هي عنوان الفضيحة، عنوان فرعي آخر يصلح للفضيحة هو «نعم للكراهية» وبالفم الملآن، اما موضوع الفضيحة فهو ما يزيد على 400 لاجئ من الشرق الاوسط وافغانستان انقذتهم معجزة سماوية من الموت غرقا وتحولوا إلى رهائن للبحر، يرفض أي بر استقبالهم، بينما 14 الف مندوب من 150 بلدا يجتمعون في دوربان الافريقية في مؤتمر دولي لا سابقة له شعاره: مناهضة العنصرية وكراهية الاجانب، وعلى مدى اسبوع كان الواقع اغرب من أي خيال.
«نورو» جزيرة في المحيط الهادي، مساحتها 8.2 أميال مربعة وعدد سكانها اقل من 12 الف نسمة، تطوعت لاستقبال 200 مهاجر من رهائن السفينة النرويجية «تامبا» بعد ان استنفرت استراليا سلاح البحر والجو لابعاد سفينة اللاجئين عن سواحلها، ورفضت ان يطأ أي واحد منهم ترابها المقدس، مساحة استراليا للمناسبة هي مليونان و966 الفا و150 ميلا مربعا وعدد سكانها حوالي 19 مليون نسمة، والكثافة السكانية هي 6 اشخاص في الميل المربع، بينما تصل في جزيرة «نورو» إلى 1300 شخص في الميل الواحد. الجمهورية «الطفلة» و«نورو» ليست جمهورية تقليدية، فقد كانت في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي جزيرة برسم البيع لشركات الفوسفات، لان الجزيرة كلها كانت من الفوسفات، واكتشف الألمان ذلك في العام 1888 فضموا الجزيرة إلى امبراطوريتهم، ثم دخلت بريطانيا على الخط فقامت شراكة بين الانجليز والألمان للحصول على كنز الجزيرة، وفي الحرب العالمية الثانية احتلتها الجيوش اليابانية، وبعد نهاية الحرب أوكلت دول الحلفاء المنتصرة إلى استراليا مهمة الانتداب على الجزيرة، ثم في عام 1968 اعلنت الجزيرة استقلالها وتحولت إلى اصغر جمهورية في العالم، ولكن تناوب الدول العظمى على الفوسفات قضم مساحات واسعة من الجزيرة، ثم جاء انخفاض اسعار الفوسفات عالميا ليوجه ضربة قاصمة إلى الجمهورية «الطفلة». فقد بات عليها ان تستخرج المزيد من الفوسفات للحفاظ على بقائها، ما يعني قضم المزيد من مساحتها المتواضعة، وهنا قرر مجلس حكمائها، وهو مجلس منتخب يضم 18 عضوا ان يرفع دعاوى ضد الدول الكبرى التي نهبت ثروات الجزيرة وقضمت ارضها، وتمت تسوية نالت الجزيرة بموجبها 2.5 مليون دولار استرالي من استراليا سنويا ومبلغ 12 مليون دولار دفعة وحيدة من كل من بريطانيا ونيوزيلاندا. وطن في المزاد ولكن هذه التعويضات كانت اقرب إلى المسكنات، فالثروة الطبيعية الوحيدة التي تملكها الجمهورية هي الفوسفات، وكان لابد من حفر المزيد من المناجم سنويا وهو ما يعني تقليص المساحة السكنية باستمرار، ومع وصول المزيد من المهاجرين وخاصة من الصين صارت الحياة فيها لا تطاق، وهنا قرر مجلس الحكماء وهو الذي ينتخب الرئيس من بين اعضائه مع 5 وزراء يشكلون السلطة التنفيذية، قرر ان يطرح الجزيرة للبيع وان يشتري بالمقابل جزيرة اخرى تكون اكبر مساحة واصلح للعيش، وقد تلقى المجلس في الثمانينيات عروضا من كل من الفلبين واندونيسيا لبيعه احدى الجزر، ولكن المشكلة التي واجهها المجلس هي ان الجزر المعروضة للبيع كانت مأهولة بالسكان ما يجعل من أهل «نورو» اقلية فيها تحكم الاغلبية وهو ما رفضه مجلس الحكماء واصر على ان تكون الجزيرة التي يستوطنها خالية من السكان، وهو ما كان يصعب الحصول عليه في تلك المرحلة. وبالمناسبة فان سكان نورو هم خليط عرقي يشكل فيه سكان الجزيرة الاصليون 58 بالمئة يضاف اليهم 26 بالمئة من سكان جزر المحيط الهادي و8 في المئة من المهاجرين الصينيين، واللغة السائدة هي اللغة الناوروية ومعها الانجليزية وفي العاصمة يارين يتعايش هذا الخليط العرقي بسلام ويتزاوج بين افراده، وكله يتم تمثيله في مجلس الحكماء، بحيث يصح القول في الجزيرة بأنها تجسيد حي «للصغير الجميل»، في مواجهة استراليا «الكبير البشع». ولعل قبولها باستقبال واستضافة رهائن البحر هو تكريس لنموذج يكاد ينقرض في عالم يرفع زورا شعار العولمة ويزعم انه تحول إلى قرية كونية صغيرة، يفصّلها على مقاسه في كل يوم. رحم العولمة الضيق الوجه الاخر لهذا العالم النقيض لجمهورية «نورو» ليست استراليا، فهي عنوان فرعي، بل الولايات المتحدة الامريكية، والتهمة هنا ليست سياسية بل وثائقية، مفتوحة لكل انواع الاستنتاجات. منظمة العفو الدولية، وهي بالتأكيد ليست منظمة يسارية، اصدرت تقريرا مؤخرا قالت فيه ان في امريكا مليونا و700 الف سجين، وان 60 في المئة من هؤلاء هم من الامريكيين من اصل افريقي، يعني حوالي المليون هم من السود، مع ان نسبة الامريكيين من اصل افريقي إلى السكان البيض لا تزيد على 12 بالمئة. وهذا الخلل في التركيبة السكانية لنزلاء السجون يكشف عن عنصرية جديدة تم استيلادها من رحم العنصرية الكلاسيكية أو التقليدية التي قامت عليها الولايات المتحدة الامريكية منذ نشوئها، سواء تجاه الهنود الحمر سكانها الاصليين وكان عددهم 10 ملايين نسمة، باتوا اقلية ضئيلة في طور الانقراض، أو تجاه «العبيد» ويصل عددهم حاليا إلى حوالي 30 مليونا يحملون الجنسية الامريكية مثلهم مثل مواطنيهم البيض، ولكنهم مازالوا يمارسون «المهمات القذرة» نفسها التي اوكلها الامريكي الابيض إلى الافريقي الاسود قبل حوالي قرنين من الزمن. ونقرأ معا مقاطع من رسالة كتبها جوزيف ماكنمارا من جامعة ستانفورد البارزة في ولاية كاليفورنيا إلى مجلة «الايكونوميست» البريطانية، تعليقا على ملف شامل ومذهل حول تجارة المخدرات. تقول الرسالة: ان «التكتيك» الذي تعتمده الشرطة الامريكية في حرب المخدرات هو الأب الشرعي للسياسة العنصرية التي تمارسها الشرطة في تصنيف المواطنين، ان تكاليف هذه الحرب باهظة وتدفع البلاد كلها ثمنها، ولكن مؤرخي المستقبل لهذه المرحلة سوف ينظرون اليها باعتبار ان معظمها هو تجسيد متعمد لمحاكمة الاقليات بتهمة المخدرات، وهي مؤامرة على الشرف اقرب إلى ان تكون في القبول بتجارة الرقيق، وهذا الامر لا يحتاج إلى حرب اهلية لتعويضه، بل إلى عدد من الاجراءات الاشتراعية التي يتوفر فيها الحد الادنى من المنطق الطبيعي. ان العبودية وكراهية الاجنبي كانتا دائما من انجازات «الكبير البشع» ومهماته التاريخية، وهو يعيد استيلادها من رحمه الضيق ولو كان يحمل اسم العولمة. بقلم: شوقي رافع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق