الجمعة، 11 مايو 2012

الاسلام والعصر والديمقراطية.. قبل 500 عام

الملف السياسي ـ حكايات سياسية ـ التاريخ:

يحمل كل عام جديد في رحمه صورا من الماضي ووجوهاً تظل حبيسة التاريخ الى ان يقع حدث أو يبزغ فجر فكرة فتطل هذه الصور والوجوه من بوابات صناديقها المقفلة وتخرج الى الشوارع وهي ترتدي حلة من الماضي، ومع ذلك فإنها لم تفقد قدرتها على رسم ملامح العام الجديد.. والمستقبل. عُمر هذه الصور والوجوه يتجاوز هذه المرة خمسة قرون ومكان اقامتها هو بلاد الشام، فقد خرجت منها أو حطّت رحالها فيها، وشكّلت طوائف أو ما يسمى بلغة عصرنا نقابات مهنية، نجحت في الجمع بين القيم الاسلامية والضرورات العصرية واعتمدت مباديء ديمقراطية في تسيير شئونها وحل مشاكل أعضائها تتجاوز ما تتمتع به النقابات الحالية في معظم دول العالم العربي، ومعظمها تم تفصيله وفق مقاسات تحددها السلطة وتجعل من هذه النقابات عربة في خدمتها.
أما لماذا استعادة هذه الصور والوجوه بعد خمسة قرون، فالجواب يمكن تحديده في ثلاثة أسباب رئيسية هي أولا الوجه البشع الذي ترسمه فئة متطرفة ومتعصبة ومراهقة دينيا للاسلام وتحاول ان تقدم المسلمين للعالم باعتبارهم كهوفاً وقلاعا مقفلة ترفض الاعتراف بالآخر، والتعايش معه، وتعجز عن مسايرة روح العصر، وهو ما تلقفته أكثر من جهة ومنبر في الغرب، ونفخت في نيرانه لتشعل حرب الحضارات، وثاني الأسباب هو ما دعا اليه فريد زكريا رئيس تحرير مجلة «فورين أفيرز» الامريكية النافذة في موضوع غلاف نشرته مجلة «نيوزويك» الامريكية مؤخرا قال فيه ان أفضل السبل لتجديد العالم العربي هو تكوين طبقة من رجال الأعمال العرب في كل دولة تضطر الحكومات الى وضع تشريعات وقوانين تعتمد على الشفافية والمحاسبة، مما يفرض دولة القانون والمؤسسات، وهي أولى الخطوات على درب الديمقراطية، أي ان يتم التجديد برجال الأعمال وأهل الاقتصاد وليس بالعسكر ولا بالثكنات ولا بالانقلابات، وفقاً للتقاليد المشؤومة، وثالث هذه الأسباب هو المفارقة التي تعيشها الديمقراطيات في الغرب، وخاصة الامريكية، وهذا ما ظهر في الانتخابات الاخيرة في مدينة نيويورك، حيث فاز مايكل بلومبرج بمنصب عمدة المدينة أو حاكمها، بعد ان دفع مبلغ 69 مليون دولار في حملته الانتخابية، أي ما يساوي حوالي 93 دولاراً لكل ناخب، وهو ما يهدد بتحويل المدينة أو الدولة الى اقطاعية لكل من يدفع، بينما هذا الغرب بالذات يدعونا الى الخروج من المرحلة الاقطاعية الى .. الرأسمالية. 435 طائفة ومن هذه المقدمة ننتقل الى استعادة تلك الصور والوجوه من صناديق التاريخ. الدكتور عبدالكريم رافق استاذ التاريخ في جامعة دمشق وضع كتابا يحمل عنوان «بحوث في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لبلاد الشام في العصر الحديث» ويقول في فصل يخصصه للحديث عن مظاهر من التنظيم الحرفي في بلاد الشام في العهد العثماني «ان الطوائف الحرفية لعبت دورا هاما في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والادارية في بلاد الشام في العهد العثماني، وقد انتظم قسم كبير من السكان، وبخاصة في المدن، في الطوائف الحرفية سواء في مجالات الانتاج أو الخدمات، أو التسويق، وقد بلغت الطوائف الحرفية درجة كبيرة من التنظيم في الولايات العربية ابان الحكم العثماني ولعبت دورا رئيسيا على اكثر من صعيد. يقتبس المؤلف من «قاموس الصناعات الشامية» ان عدد هذه الصناعات بلغ 435 صنعة، ويذكر منها اسماء 163 صنعة، انتظمت في طوائف «نقابات» اعتمدت في تسيير شئونها على الدين وعلى المهنية وعلى الديمقراطية، وسوف نختار نماذج وحالات تكشف كيف نجحت هذه الطوائف في الوصول الى هذه المعادلة الصعبة. الدين في اعتماد الطائفة على الدين، يشير الكتاب الى «ازدياد شأن الطائفة التي عنيت بالتبغ وانواعه، اثر اباحة التدخين من قبل مفتي دمشق الشيخ عبدالغني النابلسي في الرسالة التي وضعها وعنوانها «الصلح بين الاخوان في اباحة الدخان». ويقول ايضا: « واشترط في شيخ الطائفة، اي رئيس النقابة، ان يكون رجل دين، مستقيما، قادرا على اداء المشيخة. ويشير الكتاب الى ان شيخ المشايخ يرأس عملية «الشّد» التي يجرونها للمبتديء او الاجير عند انتقاله من درجته الى درجة صانع او للصانع عند ارتقائه الى درجة معلم، ويكون «الشّد» بربط المرشح بالمحزم وتتلى الفاتحة عدة مرات، اما بالنسبة للمسيحي فتتلى الصلاة الربانية، وبالنسبة لليهود فالوصايا العشر..». ويقول الكتاب: ان اللجوء الى الفتاوى في حل منازعات الطوائف الحرفية كان امرا شائعا، واذا كان الخلاف عميقا وشمل عدة طوائف استشير مفتو جميع المذاهب بالأمر. شروط المهنة وقد وضعت هذه الطوائف وبمبادرة ذاتية شروطا واضحة لكل صنعة او حرفة، ومن دون تدخل من السلطة، فتقرأ في الكتاب: لم يكن للمحتسب ولا للقاضي حق تسعير الحاجيات اذ ان طائفة البساتنة في حلب احتجت على المحتسب الذي طالبهم بتسعير القرنبيط والملفوف واجابوا انه لم تجر العادة ذلك في المحكمة وايدهم القاضي ومنع المحتسب من معارضتهم. ويقول الكتاب: ان الحرفي الذي يغش في عمله يعامل بما يستحق من الاهانة والحقارة.. وقد هدد شيخ الترابين في حلب افراد طائفته بألا يلقي احدهم التراب على المقابر او في الطرق او على التلال بظاهر المدينة وان يحصر ذلك في الحفر والمغارات المهجورة وهو دليل على اهتمام مبكر بالبيئة ـ ويعاقب المخالف بما يستحق من الاهانة. ويقول ايضا: واذا صبغ الحرير بعد الفتل باللون الازرق يصبح وزن المئة درهم ستة وسبعين درهما واذا اصبح الوزن اقل من ذلك يكون الحرير مغشوشا بالزيت، ويعامل فاعله بما يستحق من الاهانة والحقارة. كما يذكر الكتاب مثلا عن أب وابنه يعملان في صياغة الذهب والفضة وقاما بالغش فطردا من السوق. الديمقراطية والتضامن ان رأس الطائفة الحرفية شخص عرف عادة بالشيخ وقد اختاره اعضاء الطائفة واقر اختياره ونصبه القاضي الشرعي، ويجب على الشيخ، ويسمى احيانا البابا، ان يكون ملما بأصول الحرفة واذا تبين انه غير ملم بذلك أمكن لاعضاء الطائفة عزله رغم حسن اخلاقه، ويقول الكتاب: طلبت جماعة من طائفة الدباغين بدمشق من القاضي الموافقة على عزل شيخ طائفتهم السيد محمد بن السيد احمد البابا لأنه ليس له خبرة في احوال الدباغة وان ذلك سبب خللا في مهنتهم.. واختار أفراد الطائفة شيخا غيره ووافقهم القاضي. وكان الانتخاب يتم بالاغلبية فيقول الكتاب: اذا ما عارضت فئة من الحرفيين رأي الاكثرية في اختيار الشيخ او خشي من قيام هذه المعارضة اتفق الحرفيون المجتمعون في المحكمة على «ان من خالف منهم تفعل معه الحقارة بما يستحق». اما عن التضامن النقابي، فيروي الكتاب: «اتفق النجارون في حلب اذا اخذ الحكام من شيخهم خشبا ودفوفا وما اعطوه ثمنها فيوزع الثمن على اهل الحرفة برضاهم..» .. واخيرا هذا النموذج: سمح للقصابين من طائفة اليهود بزيادة درهم على السعر الذي يبيع به القصابون المسلمون ليدفعوا هذه الزيادة الى فقراء اليهود وصعاليكهم». بقلم: شوقي رافع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق