الخميس، 19 أبريل 2012

جثث ورقيق في ارض العذوبة والعذاب

 التاريخ:  

جثث ورقيق في ارض العذوبة والعذاب: الجواهري و(الدينغو)وغابات(واو)ستة مليارات دولار دخل السودان سنويا من النفط اذا توقفت الحرب

(نبوءة) اطلقها الشاعر محمد مهدي الجواهري, قبل حوالي 40 عاما, عندما قال, بعد ضحكة مديدة (السودان هم اعذب العرب... واكثرهم عذابا خارج وطنهم . كنا مجموعة من الطلاب في المرحلة الثانوية, اقتحمنا على الشاعر الكبير خلوته, بتحريض من ولده (نجاح) وكان في عمرنا, كان الجواهري يقيم في تلك الفترة في حي المزرعة في دمشق,
وكان قد احرق جسوره مع النظام في بغداد, وقد ظهر بيننا شاعر, هكذا قلنا, وكان الشاعر هو (الوينغو) , ولا اذكر من اطلق ذلك اللقب عليه, وكان فتى سودانيا في حوالي السابعة من عمره, يحمل حياء الفتيات كما كنا نقول, قال انه ابن قبيلة من جنوب السودان, وان جده الاول كان ملكا يحكم مدينة (واو) , اعجبنا اسم المدينة, ولكن من فرط حزنه عندما كان يتحدث عن مدينة جده, صرنا نسمي المدينة (واوا) , وهي مفردة تقال للاطفال لتحذيرهم من مواضيع تبعث على الالم, وكان (الوينغو) شاعرا, هكذا كنا نقول, فهو يحفظ الكثير من القصائد, ومن خارج المنهج, كنا في تلك الايام مغرمين بالاساطير اليونانية, نجلس تحت عمود النور في الحي ونروي حكايات قرأناها مبسطة عن ابطال اسبارطة وطروادة وعن آلهة الاوليمب, حكاية (اورافيوس) الذي كان يغني للشمس فتشرق, كما تقول الاسطورة, كانت المفضلة لدى (الاينغو) , كان يحب سماعها باستمرار, وعندما قللنا منها, صار هو من يرويها, ومع ان الظلام كان في تلك الساعات يخيم على دمشق, الا ان الدينغو عندما يتحدث عن اورافيوس كان ينظر الى السماء وكأنه يرى الشمس تشرق في قلب الظلام. قصيدة الدينغو و... هروبه وفي ذات ليلة فاجأنا الدينغو بقصيدة, قال انه كتبها عن اورافيوس وعن (واو) , وتحت عمود النور تحلقنا حوله واستمعنا الى القصيدة و... بكينا(!), كان مطلعها: اورافيوس غنى للشمس ... وأنا غنيت لواو(!) هل كان صوته, ام القصيدة, ام ذكرى جده في غابات (واو) هو ما دفع عيوننا ان تفيض بدموع تكفي لتملأ بحيرة فيكتوريا؟ وفي اليوم التالي تحلقنا حول (نجاح) الابن الاصغر للجواهري, وكان اكثرنا جرأة على المغامرة, قلنا له لابد من تقديم (شاعرنا) الى والده. لعله (يكتشفه) . وطالت مناورات نجاح لرفع الحصار الذي كانت تفرضه (ام الفرات) على اية محاولة لاقتحام خلوة زوجها الشاعر الكبير, ولكن كلمة السر جاءت بعد ايام, قال نجاح انه تحدث مع والده عن النابغة صديقنا الدينغو, وان والده قال: لعله (كربونة) النابغة الذبياني, احضره, لنكتشفه (!). واحضرناه, كان الجواهري غارقا في (القنفة) يبتسم بحبور, دعانا الى الجلوس ولكننا لم نفعل, فقد وقفنا خلف (شاعرنا) مثل كورس يوناني يعلن ميلاد نجم جديد, كان الدينغو نحيلا ولكنه اطولنا قامة, وعقدنا سحب من جيب قميصه قصيدته كانت خفقات قلوبنا تقرع مثل طبول الاوليمب في يوم احتفال. كانت الورقة ترتعش بين اصابعه, وكان اقرب, كما اتذكره اليوم, الى ارنب مذعور يبحث حوله عن وكر يختفي فيه, ثم خرج الصوت, كان بعيدا, بالكاد يكون مسموعا, وكان يلهث مثل عداء في نهاية سباق: أورافيوس غنى للشمس .. وأنا غنيت لواو. قالها الدينغو ولم يتابع فقد استدار نحونا, وانطلق لا يلوي على شيء..(!) بعدها بزمن طويل, كتبت في مفكرتي> ان كل سوداني يحمل غايته معه عندما يرحل, ويحمل معه طيوره واجداده. وحوشه. .. وبعد حوالي اربعين عاما مازال السودانيون كما يقول ابو الفرات ومن قبله الجاحظ.. يزدادون عذوبة وعذابا في الداخل كما في الخارج. جثث في الغابة ونلتقط مشهدين: الاول من التلفزيون السوداني, وكان يعرض جثتين لقتيلين من المتمردين, تستلقيان بين الاعشاب بأقدام وصدور عارية, بينما الضابط الملتحي يطلق صواعقه الدينية فوق القتيلين وقبائل اهل الكفر, ولكن عندما تنتقل الكاميرا الى وجوه الشباب المجندين نلمح وجها شابا ينظر بطرف عينيه الى القتيلين ثم يهز رأسه بعنف وكأنه يطرد صورة شيطانية. كان الشاب واسع العينين, قريب الشبه من شاعرنا الدينجو, كان يبدو غريبا عن المشهد كله, وكان يفيض عذوبة.. وعذابا. تجارة رقيق و... نفط المشهد الاخر مسرحية الامم المتحدة, فقد احتجت منظمة اليونسيف على مجموعة كنسية تعمل في اغاثة اهل الجنوب من الاطفال والنساء, قالت المجموعة انها حررت ما يزيد عن ستة آلاف طفل وامرأة بعد ان وقعت للمسلحين مبلغ 50 دولارا عن الرأس الواحد, وردت المنظمة الدولية بغضب, فقالت ان هذا العمل تشجيع سافر على تجارة الرقيق, فالمسلمون سوف يستهدفون النساء والاطفال بالذات لأن هناك من سوف يشتريهم, بينما سوف يسعى اخرون طوعا الى الاسترقاق على امل ان يشاركوا المسلحين في تقاسم ثمن تحريرهم(!) 50 دولارا للرأس؟ الثمن لا يبدو كبيرا, فالخبراء الغربيون يقدرون ان السودان قادر على انتاج ما يتراوح بين مليون الى مليون و600 الف برميل من النفط يوميا اذا توقفت الحرب, اي ان دخله من النفط لا يمكن ان يصل الى ستة مليارات دولار سنويا و(السيد الابيض) يعرف بدقة كم رأسا يستطيع ان يشتري بهذا المبلغ بداية من الجنوب ووصولا الى الخرطوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق