الخميس، 19 أبريل 2012

شنقوا المجتمع المدني بين الحق التاريخي و... الإلهي عسكر وحرامية

حكايات سياسية، التاريخ:
 
عسكر وحرامية هي لعبة أطفال ينقسم فيها اللاعبون إلى فريقين: فريق العسكر وفريق الحرامية, في الجزائر ليس هناك لعب ولا أطفال, وعندما نشرت مجلة(تايم)الامريكية العام الماضي , صورة طفل جزائري لا يزيد عمره عن سبع سنوات, يتدلى من عنقه بحبل فوق فهوة بئر, احتج أحد القراء الأمريكيين وكتب إلى المجلة (هل خطر لكم ان المجلة التي اشتريها أسبوعيا قد تقع بين يدي ولدي, وانه قد يعتقد ان تعليق الطفل من عنقه هو رياضة أو لعبة جديدة ربما يمارسها مع أخيه الأصغر أو مع رفيقه...) وختم القارئ الأمريكي رسالته قائلا: لا أرى أن نشر صورة طفل مشنوق بحبل يمكن ان يضيف اداة جديدة للتحليل السياسي, على العكس انه يلغي السياسة ولا أعتقد ان هذا ما تريدون قوله...) . 

ولعل الأب الأمريكي محق في رسالته, ان صورة الطفل المشنوق لا تضيف إلى السياسة بل تلغيها, لأن السياسة في نهاية المطاف هي حوار وإذا انقطع هذا الحوار تتحول إلى حرب, يعتقد فيها كل فريق انه (العسكر) في مواجهة (الحرامية) ومشكلة الجزائر مع الاثنين معا: العسكر والحرامية, وليس فيها لعب ولا أطفال, وما يقال عن اللعبة الديمقراطية قد لا يكون أكثر من حبل تتدلى في نهايته أكثر من جثة , كيف؟ (اختفاء) بالجملة مجلة (فورين أفيرز) الأمريكية النافذة, أفردت في أحد أعدادها مؤخرا محورا عن الصراع في الجزائر, كشفت فيه ان المؤسسة العسكرية لا تقل دموية ولا عنفا عن الجماعات الاسلامية وان بعض المجازر الغامضة وبشهادات لعسكريين تطرح أكثر من علامة استفهام حول دور المؤسسة العسكرية التي كانت منذ الاستقلال وما زالت تلعب الدور الرئيسي في قيادة دفة السلطة. منظمة العفو الدولية بدورها, وفي تقرير صدر عنها مؤخرا, أشارت بأصابع الاتهام العشرة إلى دور السلطة في حالات (الاختفاء) التي زاد عددهاعن ثلاثة آلاف حالة, وقال التقرير ان جدارا من الصمت كان يحيط بحالات الاختفاء, ولم يقتصر على الرجال وحدهم بل ان من بين المختفين نساء, وان أهالي المختفين كانو في البداية يخافون من طرح قضيتهم علنا, خوفا من التنكيل بأبنائهم وأقاربهم المختفين ولكن جدران الصمت بدأت تنهار, وبدأ البرلمان الجزائري يتحدث عنها, وهكذا خرجت أكثر من قصة مروعة إلى العلن وظهرت صور, وأعلن عن أسماء اختفى أصحابها, أما خطفا من منازلهم, أو توقيفا على حواجز عسكرية, ومع هذا التقرير انكشف الغطاء وتبين ان بعض العسكر هم حرامية أيضا. ابن باديس وعبد الناصر ومع ذلك تبقى الجزائر مثالا صحيا يملك من التجارب والوعي ما يؤهله لان يفيض بالعافية.. كيف؟ (ثورة المليون ونصف المليون شهيد) مازال وضعا يليق بالجزائر واهلها فاقتلاع الاستعمار الاستيطاني بعد 130 سنة مهمة سبقت اليها الجزائر دول الارض كلها, بما فيها جنوب افريقيا, بينما مازال هذا الاستعمار الاستيطاني يمد جذوره في فلسطين وجوارها, واهم ما في الثورة الجزائرية هو انها كانت تستلهم رموزا اسلامية وقومية فالشيخ (ابن باديس) في مواقفه وسلوكه المقاومة للاستعمار الفرنسي كان احد ملهمي الثورة, وكان جمال عبدالناصر ابرز رعاة هذه الثورة التي جمعت العرب والبربر معا في حرب شعبية استأصلت الالة العسكرية الفرنسية واصحاب (الاقدام السوداء) من المستوطنين وحققت الاستقلال. الحق التاريخي والالهي وما جرى بعد الاستقلال معروف, الثورة اكلت ابناءها بداية بأحمد بن بيلا وتحولت الى مؤسسة عسكرية تحكم المجتمع العربي, وعندما تتحول الثورة الى سلطة تفسد, كما تؤكد تجارب العالم الثالث مع استثناءات قليلة ابرزها كوبا. بعد الاستقلال صارت جبهة التحرير هي الواجهة المدنية للسلطة العسكرية, الواجهة الوحيدة التي يمنع على اي تنظيم حزبي او نقابي ان يخرج من تحت جناحها او يتفيأ بغير مظلتها, وفي ظل هذه السلطة المانعة للتعددية تناسل الفساد وتواتدت روايات عن اختلاسات بالمليارات وحتى نهاية التسعينات كان هناك ما يكفي الجميع فالجزائر من أغنى دول القارة الافريقية غازا او نفطا وثروات زراعية وبشرية خاصة بعد ان اعتمدت الثورة خيار التصنيع, ثم نفذ صبر هذا المجتمع المدني الممنوع عليه ان يعبر عن نفسه خارج نطاق المؤسسات الرسمية فلجأ الى العمل السري, وبقدر ما كانت السلطة لا عقلانية في تعاملها مع المجتمع المدني فإن هذا المجتمع بدوره افرز مجموعات من المعارضة تنافس السلطة في لاعقلانيتها سواء على الصعيد الديني او على الصعيد القومي, وعندما ادركت السلطة, ولو متأخرة ان تبيح حرية انشاء الاحزاب والتنظيمات كانت القواعد الشعبية للحركات السرية باتت قوية بما يكفي للفوز في الانتخابات عام 1992 وهكذا بدأت المواجهة بين فريقين قويين يعتمد احدهما الحق التاريخي بينما يشهر الآخر سلاح الحق الالهي, وتصاعدت لعبة شد الحبل على اعناق الناس وخاصة العقلانيين والليبراليين والمؤمنين بالتعددية وحرية المجتمع المدني في اقامة مؤسساته وتنظيماته. نهاية اللعبة تلك المواجهة بكل دمويتها وبشاعتها وعنفها كشفت عن عمق الازمة ليس في الجزائر وحدها بل في معظم دول العالم الثالث التي انتقلت من الاستعمار الى الاستقلال في ظل حكم العسكر, مع تغييب كامل للمجتمع المدني, والعراق هو ابرز نموذج. الانتخابات الجزائرية ليست نموذجية بالتأكيد, ولكنها قد تشكل المرحلة الانتقالية المطلوبة ليستعيد المجتمع المدني دوره بعد توفير الامن والامان لافراده ومؤسساته او قد تتحول مشنقة اذا شاء بعض العسكر وبعض المعارضين في الطرف الآخر العودة للعبته المفضلة: (ابطال وحرامية) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق