الاثنين، 27 فبراير 2012

الصحوة القبلية

مجلة العربي، الجمعة 1 يوليو 1994  23/1/1415هـ /العدد 428
ما نراه في الكثير من الأحداث الدامية في منطقتنا، وما نسمع به من
ممارسات الاستبداد العديدة، بطول التاريخ العربي وعرضه، هل يكون
مرجعه إلى تلك الجذور القبلية القديمة؟ سؤال يجيب عنه هذا المقال.
        يروي المفكر الخليجي المرحوم غانم غباش على لسان رجل يروي: "لقد تزوجت 4 مرات وربما أكثر، أتعرف لماذا؟ لأننى أعتقد أنه لا يمكن لامرأة واحدة أن تجمع الحسن كله، وهكذا عقدت على 4 نساء كل واحدة تملك نسبة من الجمال والأخلاق، وعندما أجمع هذه النسب مع بعضها تتشكل عندي حورية مثل حوريات الجنان.
         وإذا كانت هذه النسبية أو "التعددية" تنتسب للرجل وحده، فقد عرف العربي في الجاهلية نسبية أو تعددية تنتسب للأنثى، إذ يشير الدكتور سعيد فالح الغامدي في كتابه عن "البناء القبلي" والتحضر في المملكة العربية السعودية" إلى أنه "كان يشيع في الجاهلية تعدد الأزواج، دون التقيد برابطة القرابة بينهم".
         ولكن هذه "التعددية" سواء في الأزواج، أو في الزوجات، تتوقف عند حدود لا تتجاوزها! إلى عالم الفكر والسياسة، فالرحالة العربي ابن جبير مثلا يقود بعد عودته من رحلته الحجازية "لا إسلام إلا في المغرب" (!)، ويعلق الدكتور حسين محمد فهيم في كتابه عن "أدب الرحلات"، فيقول: "لعل السبب الذي دعا ابن جبير إلى مثل هذا القول ما وجده في مكة من تعدد للمذاهب "في القرن السادس للهجرة"، وتضارب سلوك أبنـائها في أداء الشعائر ببيت اللـه الحرام، وذلك في مقابل سيادة مذهب واحد "المالكية" عند المغاربة..".
         إلا أن الدكتور فهيم ينقل عن الدكتور زكي نجيب محمود قوله: "إن الصحراء قد ولدت في التفكير العربي صعوبة تمييز الأبعاد، بمعنى أن النسبية قد اختفت وحلت محلها رؤية مطلقة..".
         وفي هذه "الرؤية المطلقة" يتساوى المشرق مع المغرب في تصنيع الطغاة وإعادة إنتاجهم، اعتمادا على "العصبية" بصورها القديمة والحديثة منذ قيام الدولة الأموية وحتى اليوم، ولعل كتاب "الطاغية" الـذي صدر أخيرا عن سلسلـة "عالم المعرفة في الكويت" من تأليف الدكتور إمام عبدالفتاح، يمنحنا نـماذج لبعض تجليـات هـذه العصبيـة، في سعيهـا الدموي لتكريس الحقيقة المطلقة، والإجهاز بالحرق والصلب والخازوق على أية تعددية محتملة (!).
بين الصلب والذبح
         يروي الدكتور إمام: "عندما التقى عبدالملك بن مروان في مسجد الرسول بأحد جنـود الجيش الذي أرسله يزيد بن معاوية لمقاتلة عبدالله بن الزبير، راح يؤنبـه تأنيبا شديـدا: أتـدري إلى من تسير؟ إلى أول مولود في الإسلام، وإلى ابن حـواري رسول الله، وإلى ابن ذات النطاقين، وإلى من حنكـه رسول الله.. ثكلتك أمك، أما واللـه لو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبهم الله جميعا في النار".
         ولكن بعد أن تولى عبدالملك بن مروان السلطة، جهز جيشا من أربعين ألف مقاتل على رأسه الحجاج بن يوسف، فحاصر ابن الزبير بمكة شهرا، ورماه بالمنجانيق، وظفر به الحجاج، وقتله وصلبه عام 73 للهجـرة، وهو التاريخ الذي تـدعمت فيـه خلافـة عبـد الملك بن مـروان و "صحت" على مـا يـروي السيوطي".
         ولم تكن العصبية الأموية تحتمل أي اجتهـاد سياسي أو تعددية أو مشاركة في مواجهة الحقيقة المطلقة التي تملكها وحدها من دون سواها.
         ولكن ماذا لو كان الاجتهاد فكريا؟
         يروي الدكتور إمام: كانت ليلة عيد الأضحى لسنة 120 هـ وفي صلاة العيد، وقف "خالد بن عبداللـه القسري"، وإلي الكـوفة يخطب على المنبر خطابا جـامعا، قـال في نهايته "أيها الناس، اذهبـوا وضحوا بأضحياتكم، تقبل الله منا ومنكم، أما أنا فإني مضح اليوم بالجعد بن درهم، فإنه يقول: "ما كلم الله موسى تكليما ولا اتخذ خليلا، تعالى الله عما يقول علوا كبيرا"، ثم نزل واستل سكينا وذبحـه أسفل المنبر، وكانت جريمة الجعد بن درهم نفي الصفات عن الله تعالى..".
         ومع انهيار عصبية بني أمية، يتربع بنو العباس في سدة السلطة، بداية من أبي العباس "السفاح" الذي سعى إلى تكـريس عصبية قـومه باعتبارها حقيقـة كونية، وبمفعول رجعي، فاستهل حكمه بنبش قبور خلفاء بني أمية وحرق جثثهم وذر رمادها في الريح، وإقناع الناس بأن الخليفة العباسي هو من يحفظ نظام الكون كله، "فإذا قتل اختل نظام العالم، احتجبت الشمس وامتنع المطر وجف النبات"، كما كانت قناعة الناس في ذلك الوقت. ومع أن السفاح كان سريعا إلى سفك الدماء، وقد قتل في مبايعته من بني أمية وجندهم ما لا يحصى من الخلائق، إلا أنه كان شديد التدين، وكان نقش خاتمه "الله، ثقة، عبدالله وبه يؤمن" (!).
         أما المنصور الذي حكم من بعده 32 عاما، فقد وصف في وصيته لابنه، جهوده في تكريس سلطان الحقيقة المطلقة على العباد، فقال لابنه المهدي: "إني تركت لك الناس ثلاثة أصناف: فقيرا لا يرجو إلا غناك، وخائفا لا يرجو إلا أمنك، ومسجونا لا يرجو الفرج إلا منك"، وهذا النوع من "التعددية" في أصناف الناس ربما ما زال سائدا في أكثر من دولة عربية حتى اليوم (!).
         ولكن ماذا يحدث لو أن هذه "الرؤية المطلقة" عجزت عن إشباع نهم الخليفة إلى "المعرفة".. فهل يفتح باب الاجتهاد؟
         يروي الدكتور إمام "عندما أفضت الخلافة إلى هارون الرشيد وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي، فراودها عن نفسها، فقالت لا أصلح لك، إن أباك قد طاف بي، لكنه شغف بها، فأرسل إلى أبي يوسف قاضيه الشهير، والملقب بـ "فقيه الأرض وقاضيها"، فسأله الرشيد: أعندك في هذا شيء؟ وجاءه الجواب كما يشتهيه.
         هذا في الأمس، وماذا عن اليوم؟
الغريب عن القبيلة
         يشكو المفكر المغربي عبدالله العروي: "إن الصحف عندنا تتكلم على رجال القبائل بدون أدنى انزعاج ولا تردد، مع أنها في الوقت نفسه تدرك محاولات السياسة الاستعمارية لتقوية النظام القبلي لعرقلة نمو الحركة الوطنية، إن بلادنا ما زالت رغم تبني النظام القروي، وتنظيم انتخابات، مقسمة قانونيا إلى قبائل، والقبيلة إلى أفخاذ والفخذة إلى فرق..". ويضيف في بحث بعنوان "مفهوم القبيلة": "إن كتابنا القدامى يقولون إن أصل القبيلة هو التناسل الطبيعي، إلا أن البحث الحديث أظهر أن هذا لا يصح إلا في حالات نادرة، ويكاد الأنثروبولوجيون يجمعون، رغم تعدد المدارس التي ينتمون إليها، على أن الأصل في القبيلة هو الاختلاط.. إننا إذا تشبثنا بأسماء خيالية مثل "سابق" النسالة البربري المزعوم، أو افريقش جد البربر المزعوم، فإننا سوف نعجز عن المشاركة في دراسة ظاهرة اجتماعية تهمنا قبل غيرنا..".
         وبدوره يؤكد الدكتور سعيد فالح الغامدي من جامعة الملك عبدالعزيز في المملكة العربية السعودية: "إن العصبية القبلية من حيث الأنساب لا تزال قائمة حتى يومنا هذا، وإن كانت بصورة أقل بكثير عما كانت في السابق، إلا أنها لم تنته تماما..".
         وفي دراسته العميقة عن "البناء القبلي والتحضر في المملكة العربية السعودية"  - وقد صدرت في كتاب ظهرت الطبعة الخامسة منه عام 1990 م - يقول الدكتور الغامدي: "إن المجتمع القبلي في المملكة العربية السعودية لا يعرف العناصر الدخيلة والمهاجرة من الخارج إليه، كما هو الحال بالنسبة للمدن وخاصة مدن الحجاز..".
         ويقارن بين نظرة الدولة المتحضرة إلى المواطنين ونظرة القبيلة، فيقول "على الرغم من أن نظام المملكة العربية السعودية ليست به تفرقة بين المواطنين الأصليين والمواطنين بالتجنس الذين حصلوا علي الجنسية أما بالإقامة الطويلة في البلاد أو بأية طريقة أخرى، إلا أن المجتمعات القبلية تقيم هذه التفرقة بين أبنائها، وغيرهم من العنـاصر المهاجـرة، فـلا تقبل أن ينتسب إليهـا أي شخص غريب، أو حتى أن يقيم داخل أراضيها..".
الدولة والحزب والقبيلة
         وهذا الوضع القبلي التقليدي الذي يرفض أي مشاركة أو أي وجود "غريب" داخل أرضـه  - والغريب هنا هو ابن القبيلة الأخرى  - يبدو طبيعيا في سياق نمو وتطور المجتمع العـربي، وهو مرحلة فحسب في هذا السياق، حيث إن الدولة المتحضرة الجامعـة التي لا تميز بين المواطنين تبعـا لانتماءاتهم القبلية أو الجهوية أو الدينية هي النموذج السائد حاليا، غير أنه في مواجهة هذا "التحضر" الذي تقوده الدولة، يبدو أن بعض المجتمعات العربيـة والإسلامية  - أو فئات في هذه المجتمعات  - ترفع شعار "الصحوة القبلية"، واقعا وممارسة، مباشرة أحيانا، ومداورة في أحيان أخرى، وهنا نماذج على مستوى الدول والأحزاب.. و.. الأفراد:
         * نظام الحكم في العراق هو نظام حزبي ولكن صنع القرار يقتصر على بطن واحـد من بين ثلاثـة بطون من آل تكريت، ولم يعد هذا البطن يتسع لأكثر من صدام حسـين وولـديـه قصي وعدي وأشقائه وصهره.. فالحزب يختصر الـدولة، والقبيلة تختصر الحزب و"أهل البيت لما يبتلعون القبيلة، ونسب صدام ينتهي  - كما يزعم  - إلى أهل البيت وهم عصبته (!).
         وهذه العصبيـة تستنفر العصبيات الأخرى، وما اغتيال الشيخ التميمي في بيروت إلا أحد مظاهر هذا الصراع العشائري، ومثله الحروب العرقية والطائفية في شمال العراق وجنوبه.
         * قبل اشتعال الحرب في اليمن الموحد، أطبقت قبائل بكيل على العاصمة صنعاء، وأغلقت جميع منافذهـا أمام قبائل حاشد، واشترطت بكيل على حاشد أن تدفع لها ديونها، وكانت تصل إلى 6 مليارات ريـال يمني، وكانت دولة الوحـدة ما زالت قائمة (!).
         * أشعل "مؤتمر الأقليات" الـذي كـان يفترض عقده في القاهرة الصراع داخـل "حزب لما الوفد، على خلافة فؤاد سراج الدين، طرفـا الصراع هما شقيقه ياسين سراج الدين وحفيده فـؤاد بدراوي، وفـؤاد سراج الدين ما زال حيا.
         * الأحزاب في لبنان، هي في معظمها أحـزاب عائلية ومذهبية، أو الاثنان معـا، ولا يخفي بعض الحزبيين شماتتـه بطائفـة الروم الأرثوذكس التي لم تؤسس حزبـا عائليا أو مذهبيـا يحمي أفرادها، بل تـوزعت بين الأحـزاب العلمانيـة!! كـما أن هنـاك مـؤرخين يرون أن مـا يجري في لبنان منـذ منتصف القـرن الماضي وحتى اليـوم هو استمـرار لصراع القيسية مع اليمنية (!).
         * مجلس الأمة في الكـويت يعتبر بـما يشبه الإجماع، من أرقى المجـالس التمثيلية في العالم العربي، ومع ذلك فإن صحافية بريطانية سألتني قبل الانتخابات الأخيرة: ما هي نتائج الانتخابات حتى الآن؟ قلت: إن الانتخـابـات موعدها الأسبـوع المقبل. وردت الصحافية: ولكن نواب القبائل فـازوا بالتزكية، فكم يبلغ عدد هؤلاء؟..
         يضاف إلى الدول والأحزاب حالات فردية تصلح نموذجا، هنا بعضها:
         * في 26 نوفمبر من العام الماضي نشرت صحيفة "الـوطن" الكويتية، دراسة احتلت صفحـة كاملة كتبها السيد مشاري حمود العميري تحت عنوان "أما آن للتاريخ أن يتكلم" بذل الكاتب فيها الكثير من الجهود، ليثبت أن "من القبائل التي لم تعط حقها في البحث وإظهارها جيدا هم الرشايدة، فظلت ردحا من الزمن ينظر إليها بعين غير منصفة لأسباب قد لا تعلو عن مواقف أو لضعف مر بها"، ويبرهن السيد العميري عبر العودة إلى المراجع والتصانيف على أن الرشايدة هم من الشرارات القبلية القحطانية العريقة في النسب.." وقد نجح الكاتب فعلا في دفع التاريخ لأن يتكلم وينصف القبيلة (!!).
يريدون تزويجي قبليا
         * نشرت صحيفة "المسلمون" السعودية في 6 مايو/ آيار الماضي، الشكوى التالية من فتاة سعودية: "أهلي يقيدون زواجي لأنهم - بصراحة - يريدون تزويجي من نفس القبيلة، لقد رفضوا كل من تقدم لي برغم كفاءته، وبرغم أنه ممن يرضى دينه وخلقه، وذلك انتظارا لأن يتقدم من هو من قبيلتي، وهذا قد لا يحدث لأن المشكلة أنه لا يوجد فيها من يريد الزواج مني، فماذا أفعل؟" ويرد الشيخ عبدالعزيز الغامدي بالقول "إن التمسك بالزواج من نفس القبيلة أو العائلة عادة يجب الإقلاع عنها..".
         إن "الصحوة القبلية" هي  - أحببنا أم كرهنا  - حقيقة واقعة، وهذه الصحوة تنمو كما سواها من الصحوات، في غياب التعددية والمشاركة وسيطرة "الرؤية المطلقة" على مراكز صنع القرار في الدولة العصرية، إلا أن هناك نموذجا أقل مغالاة وأكثر إنصافا، ففي انتخابات جنوب إفريقيا الأخيرة مارس شيوخ قبائل الزولا عمليا شعار "إما أن تنتخب زولا.. أو تموت" وأحرقوا خصومهم علنا في الغابات والشوارع، ومع ذلك فقد حصل حزب القبيلة "انكاثا" على 50.3 بالمائة فقط من أصوات القبيلة، بينما حصل نيلسون مانديلا على 32.1 بالمائة. ولأنها الانتخابات الأولى منذ ما يزيد على ثلاثة قرون من سيادة قبائل البيض
فإن النتيجة تكشف انتصار الدولة على القبيلة.. حتى في مجاهل الغابات.. وفي هذا الانتصار "كلنا زولو".. أو.. هكذا نحلم (!).
و.. صحوة البيت الأبيض
         "لم يكن تاريخنا على الدوام مجيدا، لكن مستقبلنا يمكن أن يكـون كـذلك"، بهذه العبـارات استقبل الرئيس الأمريكي بيل كلينتـون في إبريل - نيسان الماضي، وللمرة الأصلي في تاريخ أمريكـا ممثلين عن 500 قبيلة هندية.
         ويعيش الهنود الحمر داخل محميات مخصصـة لهم، ولا يزيـد عددهم على مليـون و 900 ألف هندي، ومع أن الرئيس الأمريكي جدد دعمه لحق "الحكومات القبلية في تقرير مصيرها" إلا أن هذا الحق لا ينطوي على أكثـر من ممارسـة الشعائر الدينية وتطوير الكازينوهات في محمياتهم، ومساعدتهم للحصول على "ريش" النسر، وهو من رموزهم البارزة، من دون انتهاك القواعد المفروضة لحماية.. النسور (!)
         وفي عام 2000 سوف يتم افتتاح "متحف الهنود الحمر" في أمريكا (!).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق