الثلاثاء، 6 مارس 2018

الإباحية ليست رذيلة أخلاقية

مجلة العربي، الجمعة 1 ديسمبر 1995  9/7/1416هـ / العدد 445
بل بضاعة سياسية الإعلام وأوهام الديمقراطية الإباحية هي القناع الجديد للإعلام الكوني، وهذا الإعلام الذي نجح في مواجهة السلطة وإسقاط الرؤساء سقط في أيدي قوى السوق. والاحتجاج على هذا الإعلام في الوطن العربي والإسلامي ينطلق من وجهـة نظـر أخـلاقيـة مع أن إعلام "الترفيه" يحمل رسالة سياسية.

          روبرت هيرسان مواطن فرنسي تعاون مع النازيين أثنـاء احتلال باريس بعد التحـرير، ألقته السلطات في السجن، ولكنه اليوم يسيطر على 30 بالمائة من الإعلام في فرنسا، بالإضافة إلى 40 بالمائة من وسائل الإعلام في بولندا وفي إيطاليا، كما أن رئيس الوزراء السابق سيلفيو برسلوني يملك 6 قنوات تلفزيونية مع عشرات الصحف والمجلات. وفي بريطانيا تسيطر شركة روبرت موردوخ على 37 بالمائة من الصحافة اليومية، وهي في الوقت نفسه تسعى، وبنجاح، إلى "مردخة" الإعلام الأمريكي، عبر مشروع عملاق يجرف أمامه القوانين والتشريعات التي تحمي الإعلام من وحش الاحتكار.



          كان الرئيس الأمريكي الأسبق توماس جيفرسون يعبر عن قنـاعة عميقة وراسخة عنـدما قـال: "إن وجود صحافة من دون حكومة هو خير من وجود حكومة دون صحافة" ولكن هذه القناعات تهتز اليوم، بعد أن باتت قـوى السـوق في العـالم الصناعي تقـوم بالدور نفسـه الذي تقـوم بـه السلطـة في العالم الثالث، وبنجاح أكبر.
          "أنا أعرف تماما أنني عندما اكتب عن رموز السلطة فكأنما اكتب عن الآلهة، وأعرف أن عقوبة الهرقطة عندنا ربما تتجاوز الإحراق حيا" يقولها رئيس التحرير صحيفة "بـوست" في زامبيـا، ويشير في مقابلة مع صحيفة "وول ستريت جـورنال" الأمريكية إلى أنواع التنكيل التي يتعرض لها الإعلام الحر في إفريقيا على أيدي رجال السلطة. أما في الغرب فإن الإعلام يخوض وبكثير من المتعة في تفاصيل الفضائح الحكومية، بما فيها فضائح الرئيس، ولعل فضيحة "ووترغيت"، التي قضت على حيلة الرئيس ريتشارد نيكسون السياسية هي شاهد على قوة وكفاءة الإعلام في الديمقراطيات الغربية.
          وفي هذا السياق، يروي الكاتب "رونالد كيسلر" في كتاب صدر أخيرا، ويحمل عنوان " داخل البيت الأبيض" كيف أن الرئيس جيمي كارتر عندما اشتدت عليه أزمة الرهائن، بعد العملية العسكرية الفاشلة في "طبس" أمر باقتلاع جميع أجهزة التلفزيون من البيت الأبيض، وإلقائها في المستودع، وقد زاد عدد الأجهـزة المقتلعة على 180 جهازا. أما الرئيس نيكسون فقد مارس سياسة "التعتيم" إلى حد أن أحد مساعديه اضطر إلى أن يتآمر مع "حلاق الرئيس " كي يبقى التلفزيون شغالا وهو يقص شعر الرئيس "لعله يعرف ما يقوله الناس عنا"، غير أن نيكسون عندما دخل غرفة الحلاق، كان أول ما فعله هو "ضرب مفتاح الإقفال في التلفزيون إلى حد كاد يقتلعه" وفقا لرواية الحلاق. أما مع الرئيس الحالي بيل كليتتون. فإن الإعلام "دشن" المواجهة مع الرئيس بإثارة علاقته الجنسية مع مساعدته السابقة "جنيفر فلورز" ومع أن الرئيس خرج نظيفا من التهمة، إلا أنه فرض "الحجر" على 1800 مراسل يقومون بتغطية أخبار البيت الأبيض، فمنعهم من مغادرة "غرفة الاتصالات" أثناء القيام بمهماتهم، وبذلك قطع عنهم المصادر الرئيسية لأخبارهم التي كانوا يلتقطونها عبر جولات سريعة بين مكاتب المسئولين ويستمعون خلالها أشد الهمسات والإشاعات والتسريبات بما يضمن لهم مساحة على الصفحات الأولى في صحفهم، أو الخبر الأول في النشرات الإخبارية المسموعة والمرئية. كما أنه وفقا لرواية مجلة "نيوزويك، فإن الرئيس ومساعديه لم يعودوا يكلفون أنفسهم مشقة الرد على الأسئلة الهاتفية للمراسلين، ويكتفون بإحالتهم لمحا الناطق الصحفي.
          ويعلق الكاتب " كيسلر" فيقول: "ولكن الرئيس عاد ليكتشف مجددا أنه لا يستطيع أن "يقفز" من فوق حاجز الإعلام، لأن هذا الإعلام كان وسيبقى الجسر الوحيد بين البيت الأبيض و... العالم"
الترفيه والإباحية
          ولكن هذه العافية الإعلامية في مواجهـة السلطة تفقد الكثير من مناعتها في مواجهة " قوى السوق، وهو ما تكشف عنه "المائدة المستديرة" التي عقدت في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك وشارك فيها عمالقة رجال الإعلام ونشرت بعض أبحاثهـا مجلة "دراسات إعلامية" الأمريكية في عددها الأخير.
          يقول الكاتب الإعلامي "ليوبوغارت" : "إن التنوع الغني في وسائل الإعلام اليوم لا يمكن فصله عن قاعدته الإعلانية. فالشركات التي تقوم بتمويل الإعلام هي صاحبة مصلحة في النظام الاقتصادي القائم. وبالتالي فإن الإعلام، لا محاولة الحفاظ على زبائنه، يصبح محافظا وأقرب إلى ممارسة الرقابة الذاتية. هذا ما كان يقوله النقاد الماركسيون، وهو يتحقق، فالإعلام لم يعد يخدم الديمقراطية بالضرورة".
          في خلال العقود الماضية كانت قوى السوق محلية، وبالتالي فإن الإعلام الذي كانت تسيطر عليه هذه القوى كان يهتم بالقضايا المحلية، أي كان سياسيا في معظمه، ولكن هذه القوى باتت اليوم كونية تتجه إلى ترويج النزعة الاستهلاكية، وبالتالي تجعل الإعلام أقل تسييسا، إنها تبتعد عن المجتمعات المحلية وتساعد على نشر إعلام "التابلويد" أي الإثارة. في محاولة لاكتساب أكبر عدد من المستمعين أو القراء أو المشاهدين على النطاق الكوني، ولعل أبرز مثال على ذلك هو ما اعتبرته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية انتصارا لها، فقد كشفت الصحيفة أنها، وخلال خمس سنوات، نجحت في تقليص المادة السياسية من 75 إلى 50 بالمائة، بينما احتلت صفحات "الترفيه" ما خسرته السياسة، قالت الصحيفة: صرنا اقل تسييسا وكسبنا بذلك عددا أكبر من القراء.
          وتكشف الصحيفة في مناسبة أخرى ان هيئة تحريرها تملكتها الحيرة عندما بدأت محاكمة "أو جي. سيمبسون" المتهم بقتل زوجتـه وعشيقها. قـالت الصحيفة: "في اليوم الذي بدأت فيه المحاكمة، ألقى الرئيس كلينتون خطابه عن "أحوال الأمة" وحرنا في أمرنا: هل نضع خبر المانشيت الرئيسي عن كلينتون أم عن سيمبسون، ثم اتفقنا على تخصيص النصف الأعلى من الصفحـة الأولى للاثنين معا، فوضعنا خطاب كلينتون، وتحته مباشرة محاكمة سيمبسون".
          ولكن ماذا يعني إعلام "الترفيه" وهل هو غير سياسي فعلا؟ يقول أحد المشاركين في "المائدة المستديرة": "إن برامـج الترفيه المستوردة تحمل رسالة سياسية مادامت تعرض قيما مختلفة وأنواعا متباينة من السلوك ومن مستويات العيش، غير أن أكثر عناصرها تخريبا تلك التي يسببها الالتباس في العلاقات الإنسانية، خاصة بين الـرجل والمرأة، وليست الشعـوب في دول العـالم الصناعي وحدها هي الضحية، ففي خارج هذا العالم، وربما دول العالم الثالث بالذات، فإن المقاومة للأفلام الأجنبيـة في التلفزيـون كما في السينما تأخذ صيغـة الاحتجاج الأخلاقي غالبا، ولكن هذا الاحتجاج ما هو إلا قناع يختفي خلفه عدم ارتياح كبير لقوى استهلاكية تقلقها تلك الأفلام".
          إن الاحتجاج على "الأفلام الإباحية"، خاصة في العالمين العـربي والإسلامي يستهـدف المظهر وليس الجوهر، القشور وليس الجذور، لأن قـوى السوق التي تسيطـر على الإعلام لا تجد كبير فرق بين الـرذيلـة والفضيلة، إن همها الوحيد ترويـج ثقافـة الاستهلاك، وهذه لا تقتصر على الإباحية وحدها، ونادرا ما تجد رجل دين أو مصلحا اجتماعيا يهاجم ثقافة الاستهلاك، فهو يكتفي غالبا بالاحتجاج على الإباحية، وهو احتجاج أخلاقي. بينما ثقافة الاستهلاك تحمل رسالة سياسية بالدرجة الأولى.
          ولكن ماذا عن المعلومات؟ إن الوصول إلى المعلومة وتوظيفها في خدمة المجتمع هو أبرز مهمات الإعلام، ولا ديمقراطية من دون معلومات، فهل يقوم الإعلام بهذه المهمـة؟ يجيب أحـد المشـاركين في "المائدة المستديرة": "إن التوازن مقصود ما بين المعلومات والترفيـه. بل أكثـر من ذلك، إن وسـائل الإعلام الإليكترونية تعدنا بوضع أكثر من دائرة معارف واحد ة (الشيكلوبيديا) في مختلف حقول المعرفـة، وتصل إلى أجيال من مستخدمي أجهزة الكومبيوتر، ولكن ماذا عن هؤلاء الذين لا يملكون تلك الأجهزة، أو أولئك الذين لا تسمح ظروفهم بالحصـول على تلك المعرفة؟! أنهم يبشروننا بحرب طبقية من نوع جديد بين من يملك ومن لا يملك. على مستوى الأفراد كما الدول".
أوهام التعددية
          الهند تطرح نموذجا ميدانيا لهذا الإعلام العصري الواقع بين مطرقة السلطة وسندان قوى السوق. تلك القارة حيث تصل نسبة الأمية إلى 45 بالمائة من تعداد السكان كانت الحكومة وحتى عام 1991 قد فرضت وجود محطة تلفزيونية واحدة، تبث على قناتين. والمحطة هي صوت الحكومة، وتصل إلى 40 مليون مشاهد، وعندما وقعت الاضطرابات بين المسلمين والهندوس إثر إحراق المسجد إلا سلامي، تدخل رئيس الوزراء ومنع محطة الحكومة من بث النبأ أو من عرض أية صورة عنه. اليوم الوضع يختلف إذ إن هناك 13 قناة تلفزيـونية، بعضها مستقل، ويخصص وقتا و نشراته الإخبارية لأنباء المعارضة. إذن نجحت الهند في موجهة احتكار الحكومة للإعلام المرئي وبات المواطن الهندي قادرا على معرفة الرأي الآخر غير الرسمي، ومتابعة نشاطات وبرامـج المعارضة للحكومة، وبهذا تعززت مسيرة الديمقراطية. ولكـن الناقدة الهندية "سيفانتي نينان" وقد وضعت كتابا بعنوان "التلفزيون والتغيير في المجتمع الهندي" تكشف أن هذا الإعلام المستقل باتت تحكمه قوى السوق، وهذه القوى هي جزء من المؤسسة الرسمية، وبالتالي فإن هذا الإعلام بات يساعد على تكريس "وهم" الديمقراطية لأنه يتجه يوما بعد يوم نحو "الترفيه" وترويج سلوك الاستهلاك مما يكرّس إعادة إنتاج عبودية جديدة يوازي تأثيرها- بل ربما يزيد- قمع السلطة. وتقول الناقدة: "إن المنافسة الإعلامية ذات الجذور التجارية يمكن أن تضيع أولويات الأمة، وتقوم بالتالي بإعادة تهميش قطاعات واسعة من المجتمع تعيش في الأصل على الهامش". وتحلم الناقدة بأن ينجح الإعلام في الهند في أن يقلّص دوره التجاري قدر الإمكان مقابل زيادة فعاليته في بناء الديمقراطية "وهذا هو الحلم المقدس لكثير من الشعوب".
          وما يصح على الهند الكبيرة يصح على لبنان الكبير أيضا إذ يقول أحـد المشاركين بالمائدة المستديرة: "في لبنان اليوم ما يزيد على 40 محطة تلفزيونية، تقدم خدماتها لحوالي 3.5 مليون مشاهد. وهذا الرقم للمحطات يمكن أن يخلق وهم التعددية، ولكـن هذه المحطات جميعها مضبوطة سياسيا بالخطوط الحمراء، واجتماعيا بقوى السـوق. وبالتالي فإن تعدد المنابر الإعلامية لا يمكن أن يكـون مؤشرا حقيقيا على مستوى الحرية والديمقراطية في المجتمع".
          وأخيرا، سئل ناشر ومدير تحرير مجلة "The Nation" - الأمة- الأمريكية: ما هـو سر استمرار مطبوعاتكم منذ عام 1865 وحتى اليوم، ومن دون توقف؟ فأجاب: السبب الرئيسي هو أننا نخسر، وهذا  ما يجعل القارئ أكثر التزاما، إن قارئنا لا يهمه كم نكسب، بل كم يخسر لو توقفنا عن الصدور.
           وهذه الإجابة ربما تكشف عن قدرة المواطن على مواجهة هذا التحالف بين قوى القمع لا فرق سواء كانت في السلطة أو في السوق.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق