الجمعة، 28 أكتوبر 2011

طوابير.. حتى الموت

١٥٠٠ راكب ماتوا غرقاً في السفينة “تايتانيك” عندما اصطدمت بجبل الجليد في العام ١٩١٢، معظم هؤلاء كانوا من الرجال، ولكن السؤال الذي شغل الباحث الأسترالي دافيد ساتاج من جامعة كويتزلاند، هو: لماذا كان عدد الغرقى من البريطانيين أكثر من الأمريكيين؟
الباحث الأسترالي قارن بين كارثة التايتانيك وبين ثلاث كوارث بحرية أخرى وقعت في القرن الماضي، وتوصل إلى نتيجة هي أن البريطانيين وقفوا بالطابور ينتظرون أن يركبوا في قوارب النجاة، بينما تمكن الأمريكيون من”شق طريقهم” إلى تلك القوارب، بطريقة أسرع.
ويؤكد الباحث لصحيفة “الاندبندنت” البريطانية أن دراسة الكوارث الثلاث الباقية تكشف أن العادات الاجتماعية وليس اللياقة البدنية تلعب دوراً بارزاً في سلوك الأفراد أثناء مواجهة الموت. وينقل عن أحد شهود العيان الناجين من “التيتانيك”، أن قبطان الباخرة كان يهتف أثناء غرقها: كونوا بريطانيين يا أولاد، كونوا بريطانيين”، ما دفع بأحد الركاب لأن يرد: سوف أذهب إلى الأعماق بكامل أناقتي”.

الباحث الأسترالي لم يتهم الأمريكيين بأنهم شقوا طريقهم عنوة وبطريقة عنيفة إلى قوارب النجاة ولكنه قال: إن ارتفاع عدد الناجين منهم لا يمكن أن يكون بلا سبب”.
هذا “الطابور حتى الموت” الذي هو جزء من الهوية الوطنية للبريطانيين عبَّر عن نفسه خلال الحرب العالمية الثانية، عندما قرر الزعيم النازي أدولف هتلر تدمير الاقتصاد البريطاني فألقت طائراته ملايين الجنيهات الإسترلينية المزورة فوق العاصمة لندن، وقد تلقفها البريطانيون بسرعة، فجمعوها ووقفوا في طوابير أمام مراكز الشرطة… لتسليمها!
وكنت أود أن أجاري الباحث الأسترالي وأتهم الأمريكي بأنه شق طريقه عنوة وأنه يؤمن بأن “القوة هي الحق” وليس العكس، إلا أن تجاربي مع الأمريكي، سواء في الخارج أم في داخل وطنه، كما تجارب كثيرين من الطلاب الذين درسوا في أمريكا، تكشف عن سلوك لا يقل انضباطاً عن سلوك البريطاني. فقد دعيت مرة إلى مأدبة غداء في منزل السفير الأمريكي في أبوظبي، واتفقت مع الملحق الصحافي جوناثان أن ألتقيه في السفارة ومنها ننتقل إلى منزل السفير. وصلت السفارة، جلست مع صديقي عطا الله حوشان، ثم خرجت مع جوناثان وأنا أكاد أتحرَّق شوقاً لتدخين غليوني فالتدخين في مبنى السفارة ممنوع. سألني جوناثان: “تذهب في سيارتك أم سيارتي؟” أجبت: أنت تعرف الطريق، فالأفضل أن تقود”. ركبنا السيارة، وأخرجت الغليون من جيبي، وما إن هممت بإشعاله حتى توقف جوناثان إلى جانب الطريق، وقال: ربما علينا أن نخرج من السيارة إذا أردت أن تدخن، فالسيارة ملك الحكومة وتعتبر أرضاً أمريكية. أضاف وهو يخرج علبة سجائره: هل تود أن ندخن الآن، خارج السيارة؟
لم نتوقف وتابعنا الطريق إلى منزل السفير وكان أرضاً أمريكية أيضاً.
هذا الانضباط الدبلوماسي له وجه شعبي، فأثناء إقامتي في أمريكا، وقد امتدت ما يزيد على ٥ سنوات، اتفقت مع صديقي إيدي، وهو أمريكي من أصل عراقي، أن نقوم برحلة صيد في نهر الباتوماك، ورافقنا في الرحلة صديق عربي، بعد ساعات من الصيد، أراد الصديق قضاء حاجته، فذهب إلى مؤخرة القارب، ولمحه إيدي، فسأل: تريد أن تقضي حاجتك أليس كذلك؟ أجاب الصديق: نعم. قال إيدي: إذاً عليك أن تنتظر لنصل إلى أقرب محطة. قال الصديق: ولكن لا أحد هنا سوانا والنهر أكبر من البحر..، وقاطعه إيدي: لو قرر سكان واشنطن وفيرجنيا التبول في النهر لتحول إلى محيط وليس إلى بحر، ولا أعتقد أنك سوف تستمتع بالصيد أو السباحة فيه”.
استدعت هذه الحكايات الطالبة الجامعية ناديا البلوشي التي كتبت في مدونتها تعليقاً حول مؤتمر العام التاسع للاتحاد الوطني لطلبة الامارات ، حملت فيه على العولمة ودعت الشباب إلى الابتعاد عن هاوية التشبه بالغرب “المتردّي روحياً أونفسياً أيَّما تردٍّ”.
وهذا ليس دفاعاً عن الغرب بل دعوة لمشاركة أبنائنا في هذا التراث الإنساني العظيم الذي يستحق أن يكون أيضاً جزءاً من هويتنا الوطنية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق