الثلاثاء، 15 مايو 2012

المدن في الغرب تبتلع الارياف وعندنا العكس، صراع الحواضر والبوادي

الملف السياسي ـ التاريخ:

الصراع بين الحواضر والبوادي وبين المدن والارياف يصنع التاريخ، وبينما يشكو الغرب من زحف المدن لتبتلع الارياف فإن العالم النامي، ونحن جزء منه، يشكو من النقيض، فالريف يبتلع المدينة، وهو ما يطرح اكثر من سؤال حول ارتفاع الحضارات وسقوطها. غضبت الفتاة عندما قال لها الرجل الكهل: «انت تقفين في مكان ممنوع»، فأعادت تشغيل محرك سيارتها المرسيدس الفاخرة بغضب شديد، واندفعت الى الخلف بشدة، وصدمته مع آخرين، قبل ان تجتاح عدداً من السيارات وأسوار الحدائق المجاورة، لتنتهي في قبضة الشرطة، قال الرجل: «المدينة تبتلعنا، وحياتنا لم تعد تطاق». الفتاة هي ليزي جروبمان، والدها محام كبير يعمل في منطقة مانهاتن، اغنى مناطق نيويورك، والحادث وقع يوم (7) يوليو الماضي على ساحل هامبتون في منطقة لونج ايلاند الهادئة وتحول الى رمز للصراع التاريخي بين الريف والمدينة.
الغزاة الأثرياء وبداية ليس في الولايات المتحدة ما يسمى في دول اخرى الريف، وهي وحدها من بين دول العالم التي لم تمر بمرحلة القرية. وليس فيها قرى بل بلدات، والبلدة هي مشروع مدينة، او منتجع، كما هو الحال في منطقة لونج ايلاند، وهي جزء من نيويورك، ويقصده اثرياء منطقة مانهاتن، قلب المدينة ومحرك اعمالها في نهايات الاسبوع كي يقضوا عطلتهم على الشاطئ. سكان لونج ايلاند يعتبرون منطقتهم بلدة قائمة بذاتها، ويصفون اهل مانهاتن عندما يصلون الى بلدتهم بأنهم «الغزاة الاثرياء» ويقفون منهم موقف الدفاع عن النفس، وعن خصوصيات حياتهم المستقرة التي لا تخلو من شظف العيش بسبب الضرائب الكبيرة التي يدفعونها على منازلهم وخدماتهم، وجاءت حادثة الفتاة ليزي لتكسر حالة التعايش الهش بينهم وبين الغزاة من مانهاتن، وقد قارنت صحيفة «واشنطن بوست» بين ليزي بسيارتها المرسيدس الفارهة وبين احدى الضحايا التي صدمتها بسيارتها ليلة الحادث، فقالت ان الفتاة الضحية وقد اصيبت بكسور في قدميها كانت تصرخ طالبة من رجال الاسعاف انقاذ حذائها الجديد الذي تنتعله، ولكن رجال الانقاذ اضطروا الى قص الحذاء لاخراج قدمها المكسورة منه. ونقلت الصحيفة على لسان احد السكان «المحليين» قوله عن غزاة مانهاتن: «انهم، وعلى مدى السنوات العشر الماضية، يصلون الينا، يلقون الزجاجات والعلب الفارغة في حدائق منازلنا، ولا ينظرون الينا، فكأننا بالنسبة لهم مخلوقات غير مرئية، ولكنهم في هذه المرة سوف يشعرون بالفرق اثناء المحاكمة عندما ينظرون في عيون المحلفين لانهم عندئذ سوف يروننا». السمك أهم من المزارعين صحيفة «الصنداي تايمز» البريطانية تعلق في تقرير لمراسلها في نيويورك على الحادثة، فتصفها بأنها اقرب الى «حرب طبقية في بلد يفاخر بأنه لا يعرف التمييز بين الطبقات» وهي حرب بين الضاحية والمدينة، وبين البلدة والبلد كله، ويعرض التقرير الى واقعة مشابهة في ولاية اوريجون في اقصى الغرب الامريكي. وتبعد آلاف الاميال عن نيويورك، ففي تلك الولاية منطقة صغيرة سبخية تقيم حولها ألف اسرة تعيش على الزراعة منذ ما يزيد على قرن، ولكن جماعة البيئة اكتشفوا مؤخراً ان هناك نوعاً من الاسماك يكاد ينقرض فضغطوا على السلطات المحلية التي اصدرت قراراً منعت بموجبه المزارعين من استخدام مياه المستنقعات المجاورة لري محاصيلهم، اي انها عملياً قطعت ارزاقهم ولكنها بالمقابل عرضت عليهم تعويضات تكفي لانتقالهم الى احدى المدن القريبة، المزارعون رفضوا لانهم يحبون طريقة حياتهم ولكن جماعة البيئة من سكان المدن مازالوا يتابعون المعركة وهم الاقوى وبالنسبة لهم فإن حماية نوع من الاسماك اكثر اهمية من حماية طريقة حياة يعيشها هؤلاء المزارعون منذ اكثر من قرن. الرعاة في الصين وهذه المواجهة الطبقية بين المدينة والضاحية، وبين المزارعين واهل المدن تنتقل الى خارج القارة الامريكية، ففي تقرير نقلته اذاعة «صوت امريكا» من الصين الاسبوع الماضي، تحدث مراسل الاذاعة عن رعاة صينيين يعيشون على حدود هضبة التبت ويقدر عددهم بحوالي 800 الف نسمة فرضت عليهم الحكومة ان يستقروا في مناطق محددة، بنت لهم فيها بيوتاً، وان يتخلوا عن حياة التنقل بحثاً عن الكلأ والمرعى لمواشيهم من الغنم والابقار والجمال، والمفارقة ان المراسل الامريكي يتعاطف مع هؤلاء الرعاة في طريقة حياتهم، وينقل في حوارات معهم اغانيهم وألحانهم وتراثهم، مع ان مسئول السلطة المحلية يقول ان استقرار هؤلاء الرعاة سوف يرفع دخل الفرد السنوي من (180) دولاراً الى ما يزيد على 800 دولار، والمفارقة هنا هي ان الاذاعة الرسمية الامريكية لا تخفي تعاطفها مع هؤلاء الرعاة الصينيين وطريقة حياتهم، التي تهددها السلطة في حين أن المزارعين الامريكيين في ولاية اوريجون يفتقدون هذا التعاطف الرسمي، ولكن هذا التناقض الظاهري ربما يزول اذا اعتبرنا ان المراسل الامريكي ينظر الى هؤلاء الرعاة الصينيين بصفتهم نوعاً من الاسماك المهددة بالانقراض، فتستقيم المعادلة! الدائري السريع يلغي الحدود لاستكمال صورة هذه الحرب الطبقية بين المقيمين في الضواحي وبين سكان المدن، ربما من المفيد استعمال المصطلح الذي يستخدمه الامريكيون في تعريف العاصمة واشنطن، اذ يقولون انها تقع داخل الدائري السريع، وكل ما هو خارج هذا الدائري لا يعد من العاصمة، واستخدام هذا التعريف يكاد ينطبق على جميع المدن، وهو تعريف حديث نسبياً بدأ مع الجنرال دوايت ايزنهاور عندما قام بعد الحرب بزيارة المانيا المهزومة فاكتشف فيها ما يسمى «شبكة الطرق السريعة»، وهذه لم تكن مألوفة في امريكا ولذلك عندما عاد من زيارته جعل اقامة شبكة من الطرق السريعة في بلاده هماً شخصياً، فوضع خطة لذلك بدأ تنفيذها في العام 1956 وتقضي بشق طرقات سريعة بطول 41 الف ميل، وكانت تلك هي البداية، ولكن ما فعلته هذه الطرق السريعة المحيطة بالمدن هو انها ادت الى وقف زحف المدن باتجاه الضواحي والارياف. ما يجري في عالمنا العربي اما ما يجري في العالم العربي فهو يبدو على النقيض، اذ ان الارياف هي التي تقوم بالزحف لابتلاع المدن، وهي من يقوم بإنشاء احزمة البؤس حول العواصم، وعندما يكون الريف مهملاً وبعيداً عن شبكة الطرق السريعة ومثلها شبكات الكهرباء فإن اهالي الارياف لا ينتظرون، انهم يهجرون قراهم ومزارعهم ويحملون ثقافتهم وطريقة حياتهم ويفرضونها على العاصمة. ولا حاجة هنا لأن تقرأ ابن خلدون كي تربط بين التقدم والعمران، فاللغة العربية نفسها تربط الحضارة بالحواضر التي يقيم فيها الحضر، اي اهل المدن، وبدلاً من ان تتحول البوادي التي يقيم فيها البدو والارياف التي يقيم فيها المزارعون الى حواجز تستقطب من حولها وتحولهم الى حضر، فإن ما يجري هو العكس. ويكفي ان ننظر الى العواصم العربية من القاهرة الى بيروت مروراً بدمشق وغيرها لنعرف معنى «ترييف المدينة» اي جعلها ريفاً، وهذه لا علاقة لها بالعمران بل بالانسان. بقلم: شوقي رافع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق