حكايات سياسية: بقلم ـ شوقي رافع - التاريخ: 06 نوفمبر 1998
كان المقاتل الصربي الشاب يقف خلف متراسه, فوق قمة التل, في
الأسفل كانت القرية الوادعة ببيوتها الصغيرة المتواضعة التي يسكنها
المسلمون الألبان في اقليم كوسوفو . مراسل شبكة (بي. بي. سي) البريطانية,
تقدم من المقاتل الصربي الشاب وسأله: انت تحب القتال؟ ابتسم الشاب وهزّ
برأسه موافقا, قال: القتال في سبيل الوطن واجب. وعاد المراسل يسأله, وهو
يشير الى القرية في الوادي: ولكن من تقاتله ليس غريبا, ربما باستثناء انه
مسلم؟ ورد الشاب: هل تريد فعلا ان تعرف لماذا اقاتل؟ وقال المذيع: بالطبع,
لماذا تقاتل؟ وبهدوء اجاب المقاتل الصربي: لان اجداد هذا المسلم في أسفل
الوادي قتلوا اجدادي.
وسأله المراسل: متى حدث ذلك؟ وردّ المقاتل بالهدوء نفسه: في عام (1389). 610 اعوام مضت على حملة السلطان مراد واحتلال كوسوفو في معركة قتل فيها السلطان نفسه وكذلك قائد الصرب, ولكن المقاتل الصربي مازال يريد ان يثأر لأجداده. وتدحرج رأسه على الدرج وقانون الثأر لا يحكم الصرب وحدهم, ففي استطلاع من ألبانيا نشرته مجلة (العربي) وصدر مؤخرا, مع مجموعة من الاستطلاعات, عن (المسلمين من آسيا الى اوروبا) يروي الزميل الدكتور محمد المخزنجي ان المسلم الألباني (لا ينام على ثأره, وبهو الفندق الذي نزلنا به يشهد على ذلك. فمنذ سنوات قليلة قطع قروي بفأس حادة, رأس رجل ظل يتعقبه, ثأرا لمقتل والده الذي وقع منذ اربعين عاما, وتدحرج الرأس على الدرج الذي نزلنا عليه لتوّنا) . ويضيف كتاب العربي: رغم شيوعية النصف قرن التي عاشتها البانيا فان قانونا للقصاص والثأر يسمى (كانون ليك دوكاكجين) ظل يعمل, على الاقل بين سكان المناطق الجبلية المعزولة, ولايزال يعمل, وتحكم به محاكم خاصة جدا تتكون مما يشبه. (مجلس شيوخ الجبل) . العودة المستحيلة ان قانون الثأر لا يوفر البان كوسوفو, ولكن لعلّ ما يميزهم هو ان المقاتل الصربي يريد ان يثأر لاجداده, ولو بعد ست قرون, اما هم فانهم يريدون الالتحاق بأجدادهم, منذ تم فصلهم عنهم في عام 1912, وكما نلاحظ فإن هذه الفترة الزمنية تبدو قصيرة في ارض تحمل ذاكرة الثأر عبر القرون. ولكن هذه العودة تبدو مستحيلة, مهما تدحرجت على أدراج الفنادق من رؤوس. لماذا؟ يرد دبلوماسي غربي في تقرير نشرته مجلة (تايم) الامريكية الاسبوع الماضي (لان انفصال الألبان في كوسوفو سوف يشجع الاقلية الالبانية في مقدونيا المجاورة على الانفصال بدورها...) , وعندئذ لن تتوقف سلسلة التداعيات مرورا بالجبل الاسود ووصولا الى اليونان... اذن ماذا يستطيع الغرب ان يقدم لمسلمي كوسوفو؟, وما هو الاتفاق الذي وقّعه المبعوث الامريكي ريتشارد هولبروك مع الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش قبل أيام؟ الجواب باختصار: لا انفصال للاقليم عن يوغسلافيا, وكل ما يستطيع ان يناله مسلمو كوسوفو هو الحكم الذاتي الموسع, هذا في احسن الاحوال. ولكن ماذا لو حاول مسلمو كوسوفو ان يستفيدوا من هذا الحكم الذاتي الموسع وان يعلنوا استقلالهم, وما هي الضمانات؟ السؤال طرحه الرئيس ميلوسوفيتش على المبعوث هولبروك, ومع ان احدا لم يعرف ردّ المبعوث الامريكي, الا ان الاتفاق كما تبين لاحقا يكشف عن ثغرتين, تمنحان ميلوسوفيتش ما يكفيه من ضمانات. الثغرة الاولى ان الاتفاق طلب تخفيض عدد قوات الامن في كوسوفو المكلفة بقمع المدنيين, اي ان هذه القوات التي قتلت الآلاف من المدنيين ونهبت واحرقت عشرات القرى, وشردّت ما يزيد عن 250 الف مسلم من اصل الباني, سوف يبقى منها في كوسوفو, وبموافقة حلف الاطلسي, ما يكفي لمنع جيش تحرير كوسوفو من القفز الى السلطة واعلان الانفصال, اي ان القتلة المسكونين بالثأر سوف يبقون (لحماية) النازحين العائدين من جيش التحرير (!). وعلى ما يروي تقرير (التايم) : تقول النازحة سلفيا فيلاكو, وهي تحمل طفلتها الباكية, وعمرها لا يزيد عن شهرين: ان هناك مراكز لشرطة الصرب وراءنا, ومراكز امامنا, اننا محاصرون, ولا خيار لنا في أين نذهب) . وما فعله الاتفاق هو أنه منح تلك السيدة وابنتها خيار العودة الى وكر القتلة. دروع بشرية و... مرتزقة اما الثغرة الثانية في الاتفاق فهي ان حلف الاطلسي الذي تطوّع للدفاع عن مسلمي كوسوفو جوا, عبر التهديد بقصف القوات الصربية, يرفض, وبشكل مطلق, ان يتورط على الارض, وان يدفع بحوالي 2000 من عناصره لمراقبة التزام الطرفين, وفق ما ينص عليه الاتفاق. بالتأكيد لا احد في الغرب يمكن ان يتطوع لاراقة دماء ابنائه دفاعا عن مسلمي كوسوفو, بل اكثر من ذلك ان هؤلاء المراقبين سوف يتحولون الى رهائن في قبضة الرئيس الصربي, فيما لو قرر خرق الاتفاق, واستدعى هذا الخرق ان يتدخل الاطلسي وان يقصف قوات الصرب, وهل يصعب على بطل مجازر التطهير العرقي في البوسنة والهرسك ان يحوّل هؤلاء المراقبين الى دروع بشرية؟ السؤال كان موجها وبشكل رئيسي الى الرئيس بيل كلينتون, صاحب المبادرة ورأس الحربة في التصدي للعدوان الصربي. وفي السوابق فان الرئيس الامريكي لم يمارس دور الارنب في البوسنة والهرسك, ولكن الزمان اختلف, وثوب مونيكا لوينسكي لا يتحمل ان تلطّخه دماء الجنود الامريكيين ايضا, ومع ذلك, فان الخيال الغربي يبدو اكثر غنى من الخيال العربي, فقد اكتشف الغرب ان في الولايات المتحدة شركات امنية تؤجر جيوشا من المرتزقة, وهكذا تم توقيع الاتفاق مع شركة خاصة تتولى على مسؤوليتها تأمين عناصر المراقبة المطلوبة, وتتحمل النتائج, مقابل مبلغ لم يكشف عنه, ولكنه يزيد عن 50 مليون دولار, وفق احد التقارير, على ان يتولى الاطلسي تأمين الحماية الجوية لهؤلاء المرتزقة, وهي مهمة ليست سهلة, في ضوء ما قاله الرئيس كلينتون: ان مقابر البلقان تفيض بالوعود التي اطلقها الرئيس الصربي... وكسرها) . ... ولعل مقابر البلقان تستضيف ضحايا الثأر ستة قرون اخرى, وهو ما يراهن عليه الغرب: كله او بعضه لا فرق.
وسأله المراسل: متى حدث ذلك؟ وردّ المقاتل بالهدوء نفسه: في عام (1389). 610 اعوام مضت على حملة السلطان مراد واحتلال كوسوفو في معركة قتل فيها السلطان نفسه وكذلك قائد الصرب, ولكن المقاتل الصربي مازال يريد ان يثأر لأجداده. وتدحرج رأسه على الدرج وقانون الثأر لا يحكم الصرب وحدهم, ففي استطلاع من ألبانيا نشرته مجلة (العربي) وصدر مؤخرا, مع مجموعة من الاستطلاعات, عن (المسلمين من آسيا الى اوروبا) يروي الزميل الدكتور محمد المخزنجي ان المسلم الألباني (لا ينام على ثأره, وبهو الفندق الذي نزلنا به يشهد على ذلك. فمنذ سنوات قليلة قطع قروي بفأس حادة, رأس رجل ظل يتعقبه, ثأرا لمقتل والده الذي وقع منذ اربعين عاما, وتدحرج الرأس على الدرج الذي نزلنا عليه لتوّنا) . ويضيف كتاب العربي: رغم شيوعية النصف قرن التي عاشتها البانيا فان قانونا للقصاص والثأر يسمى (كانون ليك دوكاكجين) ظل يعمل, على الاقل بين سكان المناطق الجبلية المعزولة, ولايزال يعمل, وتحكم به محاكم خاصة جدا تتكون مما يشبه. (مجلس شيوخ الجبل) . العودة المستحيلة ان قانون الثأر لا يوفر البان كوسوفو, ولكن لعلّ ما يميزهم هو ان المقاتل الصربي يريد ان يثأر لاجداده, ولو بعد ست قرون, اما هم فانهم يريدون الالتحاق بأجدادهم, منذ تم فصلهم عنهم في عام 1912, وكما نلاحظ فإن هذه الفترة الزمنية تبدو قصيرة في ارض تحمل ذاكرة الثأر عبر القرون. ولكن هذه العودة تبدو مستحيلة, مهما تدحرجت على أدراج الفنادق من رؤوس. لماذا؟ يرد دبلوماسي غربي في تقرير نشرته مجلة (تايم) الامريكية الاسبوع الماضي (لان انفصال الألبان في كوسوفو سوف يشجع الاقلية الالبانية في مقدونيا المجاورة على الانفصال بدورها...) , وعندئذ لن تتوقف سلسلة التداعيات مرورا بالجبل الاسود ووصولا الى اليونان... اذن ماذا يستطيع الغرب ان يقدم لمسلمي كوسوفو؟, وما هو الاتفاق الذي وقّعه المبعوث الامريكي ريتشارد هولبروك مع الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش قبل أيام؟ الجواب باختصار: لا انفصال للاقليم عن يوغسلافيا, وكل ما يستطيع ان يناله مسلمو كوسوفو هو الحكم الذاتي الموسع, هذا في احسن الاحوال. ولكن ماذا لو حاول مسلمو كوسوفو ان يستفيدوا من هذا الحكم الذاتي الموسع وان يعلنوا استقلالهم, وما هي الضمانات؟ السؤال طرحه الرئيس ميلوسوفيتش على المبعوث هولبروك, ومع ان احدا لم يعرف ردّ المبعوث الامريكي, الا ان الاتفاق كما تبين لاحقا يكشف عن ثغرتين, تمنحان ميلوسوفيتش ما يكفيه من ضمانات. الثغرة الاولى ان الاتفاق طلب تخفيض عدد قوات الامن في كوسوفو المكلفة بقمع المدنيين, اي ان هذه القوات التي قتلت الآلاف من المدنيين ونهبت واحرقت عشرات القرى, وشردّت ما يزيد عن 250 الف مسلم من اصل الباني, سوف يبقى منها في كوسوفو, وبموافقة حلف الاطلسي, ما يكفي لمنع جيش تحرير كوسوفو من القفز الى السلطة واعلان الانفصال, اي ان القتلة المسكونين بالثأر سوف يبقون (لحماية) النازحين العائدين من جيش التحرير (!). وعلى ما يروي تقرير (التايم) : تقول النازحة سلفيا فيلاكو, وهي تحمل طفلتها الباكية, وعمرها لا يزيد عن شهرين: ان هناك مراكز لشرطة الصرب وراءنا, ومراكز امامنا, اننا محاصرون, ولا خيار لنا في أين نذهب) . وما فعله الاتفاق هو أنه منح تلك السيدة وابنتها خيار العودة الى وكر القتلة. دروع بشرية و... مرتزقة اما الثغرة الثانية في الاتفاق فهي ان حلف الاطلسي الذي تطوّع للدفاع عن مسلمي كوسوفو جوا, عبر التهديد بقصف القوات الصربية, يرفض, وبشكل مطلق, ان يتورط على الارض, وان يدفع بحوالي 2000 من عناصره لمراقبة التزام الطرفين, وفق ما ينص عليه الاتفاق. بالتأكيد لا احد في الغرب يمكن ان يتطوع لاراقة دماء ابنائه دفاعا عن مسلمي كوسوفو, بل اكثر من ذلك ان هؤلاء المراقبين سوف يتحولون الى رهائن في قبضة الرئيس الصربي, فيما لو قرر خرق الاتفاق, واستدعى هذا الخرق ان يتدخل الاطلسي وان يقصف قوات الصرب, وهل يصعب على بطل مجازر التطهير العرقي في البوسنة والهرسك ان يحوّل هؤلاء المراقبين الى دروع بشرية؟ السؤال كان موجها وبشكل رئيسي الى الرئيس بيل كلينتون, صاحب المبادرة ورأس الحربة في التصدي للعدوان الصربي. وفي السوابق فان الرئيس الامريكي لم يمارس دور الارنب في البوسنة والهرسك, ولكن الزمان اختلف, وثوب مونيكا لوينسكي لا يتحمل ان تلطّخه دماء الجنود الامريكيين ايضا, ومع ذلك, فان الخيال الغربي يبدو اكثر غنى من الخيال العربي, فقد اكتشف الغرب ان في الولايات المتحدة شركات امنية تؤجر جيوشا من المرتزقة, وهكذا تم توقيع الاتفاق مع شركة خاصة تتولى على مسؤوليتها تأمين عناصر المراقبة المطلوبة, وتتحمل النتائج, مقابل مبلغ لم يكشف عنه, ولكنه يزيد عن 50 مليون دولار, وفق احد التقارير, على ان يتولى الاطلسي تأمين الحماية الجوية لهؤلاء المرتزقة, وهي مهمة ليست سهلة, في ضوء ما قاله الرئيس كلينتون: ان مقابر البلقان تفيض بالوعود التي اطلقها الرئيس الصربي... وكسرها) . ... ولعل مقابر البلقان تستضيف ضحايا الثأر ستة قرون اخرى, وهو ما يراهن عليه الغرب: كله او بعضه لا فرق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق