الجمعة، 20 أبريل 2012

التفسير الديني والعسكري للتاريخ: حروب الأقاوية

البحر في التراث العالمي يفرق ولا يوحد, يمنع ولا يصل, واندونيسيا (17) الف جزيرة يبعد بعضها عن العاصمة جاكرتا مسافة (2000) كيلومتر وتتكلم 583 لغة محلية, بالاضافة الى الباهاسا الاندونيسية, وتتوزع عرقيا الى اربع مجموعات, اكبرها الجاوية, بالاضافة الى عشرات العروق الثانوية . اذن, كيف استطاعت هذه الجزر, ومساحتها تقترب من مليوني كيلومتر مربع ان تشكل دولة واحدة, ترفع علما واحدا, وتعزف نشيدا موحدا وترنو الى جاكرتا عاصمة لها, ولو بعدت عنها آلاف الكيلومترات؟ اسلام وعسكر الاولى هي ان الاسلام هو ما يوحد هذه الاقوام, اذ ان حوالي 87 بالمائة من سكان اندونيسيا, وعددهم يصل الى 213 مليونا, هم من المسلمين وبالتالي فإن الدين كان هو (البوتقة) التي ذابت فيها العروق والاصول وامتزجت فيما بينها لتشكل أمة واحدة قبلتها الكعبة المشرفة.
الثانية: هي ان العسكر وليس اي شيء اخر, هو ما فرض على تلك الجزر والاقوام وحدتها سواء كان هذا العسكر هولنديا او بريطانيا او برتغاليا وكلهم مسيحيون, او كان محليا مسلما لان اندونيسيا ومنذ العام (1595) خضعت للاستعمار الاوروبي ولم تحصل على استقلالها الا في العام ,1945 ومنذ ذلك التاريخ وباستثناء عدة سنوات سيطرت فيها الديمقراطية مع حكم الرئيس احمد سوكارنو, فإن العسكر تولوا السلطة, ومازالوا رغم سقوط الجنرال سوهارتو. وكل من الاجابتين تطرح (سيناريو) مختلفا حول مستقبل اندونيسيا. اصحاب التفسير الديني يرون فيما يجري من تفتيت لاندونيسيا (مؤامرة) الغرب على المسلمين, ولا يعدمون الشواهد, ومن يتابع برامج التلفزيون السوداني, يكتشف ان ما يجري حتى في كوسوفو هو قمة مؤامرة هذا الغرب على المسلمين (!). حروب الاقاوية اما جماعة التفسير العسكري للتاريخ فيعودون الى ما يسمونه (حروب الاقاوية) اي البهارات. وهذه الحروب استعادت صفحات من تاريخها المفقود مع صدور كتاب جديد في الغرب, وضعه المؤلف مارتن يوث, وكشف فيه عن الجذور العميقة لهذه الحروب, وهنا حكاية من الكتاب ربما تنشر بعض ما يجري اليوم في اندونيسيا. في يوم 23 ديسمبر من العام 1616 القى الكابتن البريطاني ناثانيال كورثوب مرساة بارجته الحربية (سوان ــ البجعة) على شواطىء جزيرة (رن RUN) ومعناها بالانجليزية (اركض) وهي جزيرة صغيرة لا تزيد مساحتها على 0_ كيلو متراً مربع ويقدر عدد سكانها بالمئات. السكان رحبوا بالكابتن البريطاني باعتبار انه سوف ينقذهم من (الوحوش الهولنديين) الذين فرضوا عليهم العمل بالسخرة والموت جوعاً. الكابتن لم يضيع وقته وطلب من الاهالي مساعدته على بناء (ثكنة) يقيم فيها مع رجاله وعددهم لا يزيد على 30 بحارا, الاهالي انجزوا المهمة, واستطاع الكابتن مع رجاله وهو قابع في حصنه ان يقاوم الهولنديين مدة خمس سنوات كاملة, قبل ان يقتله الهولنديون, بينما كان يحاول الخروج من الجزيرة للحصول على تعزيزات. جوزة الطيب لماذا هذا الاستبسال البريطاني في الدفاع عن الجزيرة الصغيرة؟ يقول المؤلف: كانت الجزيرة مزروعة بآلاف الاشجار التي تحمل (جوزة الطيب) وكان الغرب كله يقاتل من اجل الحصول على هذه الجوزة التي تستخدم عقارا لمعالجة الأورام, كما تستخدم لحفظ اللحوم, ولفترات طويلة, كما ان رائحتها كانت تترامى على مسافة اميال... ومن هنا فقد ارتفع ثمن الجوزة الواحدة الى 600 ضعف ثمنها, بحيث ان الشركات التي كانت تتولى نقل هذا الجوز الى الموانىء البريطانية كانت تفرض على العمال الذين يتولون انزاله ان يلبسوا ثيابا لا جيوب فيها, لان ثمن الجوزة كان يعادل بدل اسبوع كامل من العمل (!). وقد دامت (حروب الاقاوية) اكثر من ثلاثة قرون, تعاقبت خلالها الجيوش على احتلال الجزر ونجحت هذه الجيوش في النهاية في توحيد تلك الجزر, ولكن بالقوة العسكرية, وعندما ضعف العسكر مع سقوط سوهارتو عادت تلك الجزر الى تراثها, ولم يكن صدفة ان احدى القبائل, بعد ان احرقت سوق المدينة في الاضطرابات الاخيرة, قامت بحرق واحد من الاقليات في الجزيرة.. حيا, وبعد ان تم (تحميصه) اخرج احد المحاربين كبد الضحية ونهش منه قطعة, ثم عرضه على باقي المحاربين كي يتابعوا النهش, وهو تقليد قديم جرت عليه الاعراف في القبيلة. ولكن صوت العقل في اندونيسيا قد يكون البديل اليوم عن سطوة العسكر, ولعل موقف القائد الاسلامي امين ريس في دعمه للاستفتاء المقبل في جزيرة تيمور الشرقية ومنح شعبها حق تقرير المصير يكشف عن تيار ديني يحمل تراث الاباء والاجداد الذين نقلوا الاسلام الى جزر اندونيسيا وكانوا تجارا لا محاربين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق