الاثنين، 23 أبريل 2012

جثث الأبطال تنتهي في مكب النفايات، كهوف و .. مصارف

الملف السياسي ـ حكايات سياسية،التاريخ:

«لقد ماتوا بكرامة ومن حقهم ان يدفنوا بكرامة» عبارة اطلقها رجل اطفاء في نيويورك بينما كان يقتحم مع عشرات من رفاقه خط الدفاع الذي اقامه رجال الشرطة حول انقاض مبنى التجارة العالمي في المدينة، لمنع رجال الاطفاء من متابعة عملهم في رفع الانقاض تنفيذا لقرار اتخذه عمدة نيويورك السابق رودلف جولياني. والمواجهة بين رجال الاطفاء وبين عمدة المدينة تختصر ما تسميه امريكا: الحرب العالمية ضد الارهاب، وتكشف عن وجود قوتين داخل امريكا نفسها وعلى مستوى العالم كله، قوة الحضارة المادية التي تجعل من المال إلهاً ومن البنوك معابد، وقوة الحضارة الروحية التي ترتد الى كهوفها دفاعا عن قيمها وثقافتها وتراثها باعتبارها الكنز الوحيد الذي تملكه.
صباح الاثنين الماضي، وبعد سقوط طائرة الركاب الامريكية في منطقة «كوينز» في نيويورك، وعلى بعد خمسة اميال من مطار جون كينيدي الذي اقلعت منه، وقف عمدة مدينة نيويورك السابق رودلف جولياني ليعقد مؤتمرا صحفيا عن الحادث، والى جانبه وقف رجلان ، قائد قوات الشرطة وقائد قوات الاطفاء، وصف جولياني مشهد النار التي اندلعت بعد سقوط الطائرة وانفجارها بين المنازل بأنه «هائل» ، وتوجه بالشكر، وبحرارة شديدة الى رجال الاطفاء الذين لولا جهودهم الجبارة التي بذلوها لكانت الخسائر اكبر بالارواح البشرية والممتلكات. وكانت تلك قمة المفارقة، فالعمدة الذي سوف يغادر منصبه بعد شهرين لخلفه المليونير مايكل بلومبرج، كان قد اعلن قبل يومين فقط، وفي مؤتمر صحفي انه فقد الامل في العثور على جثث او اشلاء الضحايا المدفونين في ركام المبنى التجاري، قال جولياني الحقيقة اننا عندما ننتهي من رفع الانقاض لن نعثر على جثث معظم الاشخاص الذين فقدناهم . اضاف: هذه هي الحال المأساوية مع الاسف، اننا سنحاول العثور على اكبر قدر من البقايا البشرية لكننا عندما نقول ذلك، لن نعثر على الجميع. فالنار وتفحم الجثث يجعلان من ذلك امرا متعذرا، وفي المؤتمر الصحفي نفسه اعلن جولياني ان المدينة وتحت شعار «معجزة نيويورك .. كن جزءا منها» سوف تشهد مهرجانا فكاهيا ضخما يشارك فيه نجوم سينما وسياسيون من بينهم هنري كيسنجر وروبرت دي نيرو وودي آلن وآخرون، الهدف منه رفع الروح المعنوية لسكان المدينة كي تستعيد مجدها وتعود الاعمال فيها كما في السابق، وقبل تفجيرات 11 سبتمبر. بوش: هؤلاء ابطالنا وكانت كلمات جولياني محطة في مواجهة بدأت قبل اسبوع بينه وبين رجال الاطفاء عندما اصدر قرارا بالا يزيد عدد العاملين منهم في رفع الانقاض على 25 رجلا، وهو ما اشعل غضب رجال الاطفاء فاقتحموا الموقع عنوة واشتبكوا مع رجال الشرطة وتم اعتقال العشرات منهم. غضب رجال الاطفاء من هذه الاستراحة الالزامية التي فرضها العمدة عليهم هو انهم فقدوا 343 زميلا لهم بينهم قائد وحدات الاطفاء الخاصة، عندما انهار المبنى عليهم بينما كانوا يقومون بواجبهم، ودفنوا احياء في اسفل المبنى، ومازاد هذا الغضب اشتعالا هو ان الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش عندما زار الموقع بعد الانفجار عانق رجال الاطفاء واعتمر قبعتهم الصفراء وتناقلت وكالات الانباء صوره وتحولت الى اغلفة في معظم المجلات، ووصف رجال الاطفاء بأنهم «ابطال حقيقيون» وهم يجسدون قيم المجتمع الامريكي. جثثهم في مكب النفايات كانت نيويورك بعد التفجيرات تبحث عن ابطال يرفعون معنوياتها وقد وجدتهم في رجال الاطفاء، وقت ما اعلن بوش، ومن بعده كررت امريكا كلها اللازمة نفسها، ولكن بعد نهاية العرض، فان الابطال تغيروا، وعادوا كما في السابق، من رجال السياسة ونجوم السينما، لان ليس من عادة المدينة البكاء على الاطلال لفترة طويلة، فالاعمال لابد ان تعود .. كالمعتاد ومن هنا فقد ابعد جولياني رجال الاطفاء واستبدلهم بالجرافات الكبيرة، وبدلا من العمل اليدوي البطيء للعثور على جثث «الابطال» فان اسنان الجرافات كانت تجرف الانقاض وبقايا الجثث وتحملها الى مكب النفايات في «ستايتون ايلاند». يقول رجل اطفاء: ذهبنا الى المكب، وشاهدنا بقايا جثث، ان هؤلاء اخوتنا وزملاؤنا لقد ماتوا بكرامة ومن حقهم ان يدفنوا بكرامة. .. وتضيع الصرخة في هدير الجرافات . قوة الجهاد وقوة الماك المواجهة بين رجال الاطفاء ورجال الاعمال تكشف عن قوتين تتصارعان داخل امريكا وعلى مستوى العالم، وهو ما يحاول المؤلف واستاذ المجتمع المدني بنيامين باربر التعبير عنه في مقال مطول نشرته صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية يوم 24 الشهر الماضي، وتقول مقدمته: اذا كان للحرب على الارهاب ان تنتصر فان على امريكا وبريطانيا وحلفائهما فتح جبهة ثانية مدنية وديمقراطية، تستهدف اقتلاع اليأس والاحباط اللذين ينجح الارهاب في استخدامهما». وسبق للمؤلف ان وضع كتابا تحت عنوان «الجهاد مقابل حضارة الماك» وفيه يقارن بين قوتين ، الاولى يسميها الجهاد، ليس بالمعنى الاسلامي كما يقول بل بمعنى التطرف الديني، والثانية يسميها حضارة الماك، وهي حضارة الغرب، بدءا من الماكنتوش ووصولا الى «البيج ماك» عند ماكدونالد، القوة الاولى ترتد الى كهوفها دفاعا عن ثقافتها وحضارتها وقيمها في مواجهة القوة الثانية الشرسة في هجومها والعقيمة في جوهرها الذي يقتصر على الربح والتراكم النقدي. ويرى المؤلف ان الديمقراطية والتوزيع العادل للثروة يجعلان التعايش بين القوتين ممكنا، وهذه المهمة هي من مسئولية الغرب اولا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق