الاثنين، 27 فبراير 2012

الحروب اللغوية حارة وباردة تحكم العالم

 مجلة العربي، الثلاثاء 1 ابريل 1997  24/11/1417هـ /العدد 461

اللغة هي بوابة الحضارة. وعند هذه البوابة تقع حروب وتقوم تحالفات, وفي دراسة شملت 135 دولة تبين أن 12 دولة فقط من بينها تتمتع بتجانس حضاري ولغوي, وأن 65 دولة من بينها هذه الدول تعيش حالات عنف تتراوح بين القمع والاستعباد والحصار.. وصولا إلى الحرب.
         على سبيل المثال حروب  القبائل بين (الهوتو) و(التوتسي) تشمل ثلاث دول حتى الآن: رواندا, بوروندي وزائير. أهل (الهوتو) يتكلمون الفرنسية أما (التوتسي) فهم لا يريدون عن الإنجليزية بديلا. ما يدور بين الاثنين هو ذبح على اللغة بعد أن صارت اللغة هوية.
         هي حرب فولتير وشكسبير ولكن بمعجم إفريقي(!).

         في أوربا حروب اللغة تشتعل على جبهتين: جبهات الداخل وجبهات الخارج, بلجيكا هي نموذج على جبهات الداخل, فقد تحولت عام 1993 من مملكة بلجيكا إلى دولة اتحادية تضم فلاندرا في الشمال وفالونيا في الجنوب. أهل فلاندرا يتكلمون الفلمنكية (الألمانية), وأهل فالونيا يتكلمون الفرنسية. وما بينهما حرب باردة قد تنتهي بكل منهما إلى إعلان الاستقلال, أما المملكة المتحدة فهي تجمع النموذجين معا, على جبهات الداخل تخوض حروب الاستقلال ضد إيرلندا الشمالية وضد سكوتلندا وأخيرا ضد ويلز. وعلى جبهات الخارج تخوضها ضد أوربا الموحدة لتحافظ على (الاستثنائية الإنجليزية) وسط اللغات الأوربية.
        أما في أمريكا الشمالية فإن (الإيبونيكس) أو, الإنجليزية السوداء هي آخر صيحات الحرب.
        واللغة ليست كلها حروبا, بل هي تحالفات أيضا, ألمانيا وسويسرا والنمسا قررت تشكيل لجنة لتحديث اللغة الألمانية وهي قاسم مشترك بينها, اللجنة التي صرفت عشرات الملايين من الماركات, قالت إنها قامت بإصلاحات كثيرة لتبسيط قواعد اللغة أمام الجيل الشاب... وقامت قيامة ألمانيا بمؤلفيها ومفكريها, شنّوا حربا على الإصلاحات المزعومة. وحجتهم هي أن من يتعلمها فسوف يحتاج إلى ترجمة نيتشه وهيغل وغوته وتوماس مان عن.. الألمانية. مع ذلك فالتحالف مستمر.
        أما في أمريكا اللاتينية فإن الاسم الحركي للتحالف اللغوي الجديد هو (ميركوس) ويضم هذا التحالف أربع دول هي: البرازيل, والأرجنتين, وباراجواي, والأورجواي. وهذه السوق اللغوية المشتركة هي اقتصادية في الأساس, ولكنها قررت أن تتشارك في لغتيها الرئيستين: الإسبانية والبرتغالية (!). وأن تعمل في المستقبل على لغة واحدة هي إما الإسبالية أو البرتغانية (؟)
        كيف تقع حروب اللغة, وكيف تختار اللغة حلفاءها أو أعداءها?
        الجواب في واحد من مفتاحين: (صراع الحضارات) كما يراه الأمريكي هينتنجتون, أو "عقدة الفاشودا" كما يراها المؤلف الفرنسي جيرارد برونييه, ونعرض لهما باختصار لعلنا نتمكن من الاختيار.
حضارات وحروب
        رئيس مركز التخطيط الاستراتيجي في جامعة هارفارد صامويل هينتنجتون نشر عام 1993 في مجلة "فورين أفيرز" مقاله الشهير "صراع حضارات?" ووصفه هنري كيسنجر بأنه من أهم الكتب منذ نهاية الحرب الباردة, وقد استدعى ردود فعل لم يستدعها أي مقال آخر منذ عام 1947, كما قالت المجلة فيما بعد, ويقول المؤلف في مقاله الطويل, ثم في كتاب صدر العام الماضي, حول الموضوع نفسه:
        "إن السبب الرئيسي للنزاعات في هذا العالم الجديد لن يكون بشكل أساسي أيديولوجيا ولا اقتصاديا. إن الانقسام العظيم بين أمم الأرض والمصدر الطاغي للأزمات سوف يكون حضاريا".
        ويضيف المؤلف أنه مع نهاية الحرب الباردة, فإن "حروب المستقبل سوف تنشب بين أمم وجماعات تحمل حضارات مختلفة, الحضارة الغربية, والكونفوشية, واليابانية, والإسلامية, والهندية, والأرثوذكسية, والأمريكا لاتينية وربما الإفريقية والبوذية. إن هذه النزاعات الحضارية سوف تهيمن على السياسة العالمية التي سوف يعاد ترتيبها وفقا للمعطيات الحضارية".
        هينتنجتون يرى أن هناك حضارة أوربية متجانسة وحضارة إسلامية متجانسة والصراع ما بين الحضارتين سوف يحكم العلاقات بينهما, وهو ما تم الترويج له على نطاق واسع حيث بدأ كثيرون إعادة نحت صور الحروب الصليبية في ملامح المستقبل, وهذا الصراع الحضاري ربما يكون قادرا على تفسير حرب استقلال باكستان المسلمة عن الهند, ولكنه بالتأكيد يعجز عن تفسير أسباب سقوط مليوني قتيل في حرب الاستقلال التي خاضتها بنغلادش عن باكستان, وكلتاهما دولة مسلمة, ولن نتحدث عن حروب أفغانستان أو القارة الإفريقية كما أن أحدا لن يسأل إذا كانت إسبانيا الأوربية أقرب إلى بريطانيا منها إلى البرازيل أو الأرجنتين أو المكسيك, ومثلها البرتغال.
        مجلة "الإيكونوميست" البريطانية نشرت في نوفمبر الماضي مقالا مطولا يعتمد على عشرة مراجع على الأقل, كشفت فيه صعوبة "ابتلاع" نظرية هينتنجتون أحد المراجع المعتمدة كان كتاب برنارد لويس عن تاريخ الشرق الأوسط, واقتبست المجلة منه التالي: "هناك رجل يجلس في مقهى, في إحدى مدن الشرق الأوسط, يتناول فنجانا من القهوة أو الشاي, وربما كان يدخن سيجارة, وهو يقرأ الصحيفة أو يلعب الورق أو الطاولة وهو نصف مستمع إلى ما يبثه الراديو أو التلفزيون المركون في إحدى الزوايا من أخبار. الرجل بالتأكيد عربي, ومسلم على الأغلب, وهو سوف يؤكد هويته بوضوح باعتباره فردا في هذه المجموعة, وإذا ما سئل, فإنه سوف يقول إن الحضارة أو الثقافة الغربية هي حضارة غريبة عنه, بل ربما معادية لحضارته.
        ولكن إذا حدقنا البصر بإمعان أكبر فإن هذا التناقض الحضاري يتهاوى, فرجل المقهى يرتدي على الأغلب ملابس ذات طراز غربي: بنطلون جينز, وتي شيرت وحذاء سنيكرز. إن الكرسي الذي يجلس عليه, والقهوة التي يشربها والسيجارة التي يدخنها والصحيفة التي يقرؤها كلها مستورد من الغرب, الراديو والتلفزيون من مخترعات الغرب, وإذا كان صاحبنا عسكريا في جيشه الوطني فإنه على الأغلب يتعامل مع أسلحة غربية أو سوفييتية ويتدرب وفق المواصفات الغربية, وإذا كان موظفا, فإن ما يحيطه من بيروقراطية والدستور الذي يقوم عليه نظامه كلاهما تمتد أصولهما إلى تأثيرات الغرب).
        ويضيف تقرير المجلة, أن ما يهدف إليه برنارد لويس واضح, هو يكتب: "في العصور الراهنة فإن العنصر المهيمن في لاوعي أهل الشرق الأوسط هو التأثير الأوربي, وفيما بعد تأثير الغرب عموما. وعملية الانتقال بعضهم يسميها الاقتلاع التي نتجت عنه). إن لويس يضع إصبعه على أهم العوامل, وأبعدها عن اهتمامات الدارسين التي تحدد الهوية الحضارية, وكيف أن هذه العوامل تتغير, ومن المهم أن نحتفظ بهذه الصورة ونحن نناقش كتاب هينتنجتون عن (صراع الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي الجديد".
        إذن فإن (صراع الحضارات) ليس هو المفتاح المناسب لفتح بوابة الحروب اللغوية المشتعلة على جميع الجبهات.
الفاشودا وتناطح حلمين
        ننتقل إلى "عقدة الفاشودا": المفكر الفرنسي جيرارد برونييه, وضع أخيرا كتابا يحمل العنوان التالي "أزمة رواندا: تاريخ إبادة". ويقول المؤلف: "استنادا إلى عقدة الفاشودا, فإن باريس تنظر إلى العالم باعتباره ميدان حرب ثقافية واقتصادية وسياسية بين فرنسا والإنجلو ـ ساكسون, بين الفرانكوفونية الناطقة بالفرنسية والإنجلوفونية الناطقة بالإنجليزية.
        و"فاشودا" هي بلدة في السودان, تلاقى فيها في عام 8981 الجيش البريطاني الزاحف إلى الجنوب مع القوات الفرنسية الزاحفة من الشرق. البريطانيون كانوا يريدون تحقيق حلمهم "من كيب تاون" إلى القاهرة أي من جنوب إفريقيا إلى شمال القارة, والفرنسيون بدورهم كان يدفعهم الحلم "من دكار إلى جيبوتي", واصطدم في فاشودا الحلمان, وكادت الحرب الأوربية تشتعل.
        آخر تجليات "عقدة الفاشودا" ظهر في الصراع الأمريكي ـ الفرنسي حول منصب الأمين العام للأمم المتحدة. فقد أصرت باريس أن يكون خلف بطرس غالي فرانكوفونيا مثله, ولم يكن صدفة أن الأمين العام الجديد كوفي عنان ألقى خطابه الأول نصفه بالفرنسية ونصفه بالإنجليزية, وعندما سئل إذا كان يتحدث الإنجليزية, أجاب: أتحدثها ولكن بلكنة فرنسية.
        الحروب الدامية في إفريقيا اليوم تجد مفتاحها في "عقدة الفاشودا" وليس في "صراع الحضارات", وبدءا من عام 0991 عندما قام الثوار "التوتسي" بغزو عاصمة رواندا كيغالي حيث يحكم "الهوتو" الناطقون بالفرنسية, سارعت باريس فورا إلى مساعدة رواندا, فالثوار قادمون من أوغندا حيث تسود اللغة الإنجليزية, والثوار التوتسي لا يعرف معظمهم الفرنسية.
        وخلال سبع سنوات توسعت خريطة الحرب اللغوية بعد أن استبدلت الحبر بالدم, وشملت حتى اليوم ثلاث دول هي رواندا وبوروندي وزائير. كانت الفرنسية هي اللغة السائدة في رواندا حتى عام 4991. وبعد اقتلاع قبائل الهوتو منها حققت الإنجلوفونية نصرها الكبير. وبدأت باريس تتعامل مع الأوضاع الجديدة على أساس خلفية تاريخية تقول إن الإنجلزـ ساكسون, وهم هنا الأمريكيون والبريطانيون يريدون بناء (إمبراطورية التوتسي على أنقاض الفرانكوفونية, ولم يكن صدفة أن باريس وفرت المساعدات والملاذ الآمن لحاكم زائير (سيسي سيكو) لأن شرق زائير على الأقل مرشح كي يكون جزءا من هذه الإمبراطورية التي لن تغيب عنها شمس اللغة الفرنسية فحسب, بل إشارات الشوارع والسيارات وعربات الشرطة المصنوعة في فرنسا.
        إن اللغة هي العنوان فحسب, ومع تغييره يتغير الكتاب كله, ومن هنا فإنه فظاعة المذابح ليست ناتجة عن أسباب محلية وحسب, وتكفي الإشارة إلى ما نشرته الصحف البريطانية أخيرا من أن شركة بريطانية شحنت إلى رواندا عشرات الألوف من "الماتشو", وهذه الماتشو هي سيف عريض وقصير يستعمله المزارعون عادة, ولكنه تحول إلى أداة ذبح فعالة على أيدي "التوتسي", حربة الإنجلو ـ ساكسون في منطقة البحيرات العظمى.
والإنجليزية السوداء
        الانتصار الإنجلو ـ ساكسوني في إفريقيا يرتد على الداخل ففي أمريكا قامت أخيرا عاصفة لغوية لم تهدأ بعد, عندما قرر مجلس المدارس في "أوكلاند" ولاية كاليفورنيا اعتماد ما أسماه (إيبونيكس Ebonics) أي الإنجليزية السوداء لتدريسها في مدارس الولاية لأنها أقرب إلى لغة الطلاب التي يتحاورون بها في البيت مع أهلهم وفي الشارع مع أصدقائهم. قال مجلس المدارس إن اللغة هي وسيلة لنقل المعرفة, وكلما كانت الوسيلة أقرب إلى تناول الطالب حقق نجاحا أكبر. وقال المجلس في دراسته التي أثارت جدلا واسعا: (إن النظام اللغوي الإفريقي ليس لهجة إنجليزية دارجة ولكنه يقوم على أساس وراثي) أي أن اللغة الجديدة تحمل إرث العبودية. وبعد الثورة ضده, اضطر المجلس إلى أن يوضح أنه استخدم كلمة وراثي بمعنى أنه "مستمد من" كما يحددها القاموس. أي أنها ليست صفة فسيولوجية نابعة من تكوين عناصر النطق بمقدار ما هي موروث ثقافي وحضاري.
        ومعارك الإنجلو ـ ساكسون تنتقل إلى الداخل وليس في أمريكا وحدها.
" الصحوة اللغوية " في المملكة
        (التلفزيون الإيرلندي) هو اسم شبكة جديدة بدأت بثها في المملكة المتحدة وإيرلندا قبل أسابيع. الجديد في الشبكة أنها تبث برامجها بلغة (الغيليك Gaelic) وهي اللغة الأصلية لأهل إيرلندا, سواء في إيرلندا الشمالية التي تقاتل من أجل استقلالها من عاصمتها بلفاست أو في إيرلندا المستقلة بعاصمتها دبلن.
        تقول الإحصاءات إن 500 ألف إيرلندي فقط من أصل 3.7 مليون يتكلمون "الغيليك", وهي اللغة التي كانت تستخدم قبل ألف عام, ومع ذلك فإن الإحصاء نفسه يؤكد أن أبناء الطبقة الوسطى الإيرلنديين يريدون أن يتعلم أبناؤهم (لغة الأجداد) وقد جاءت الشبكة الجديدة كي تحقق طموحاتهم.
        ومع هذه (الصحوة اللغوية) في التلفزيون قررت حكومة دبلن افتتاح ما يزيد على دزينة من المدارس الثانوية, اللغة الأولى فيها هي "الغيليك", وإذا أراد الإيرلندي أن يحصل على وظيفة في الدولة فلا بد له أن يتقن لغة الأجداد أولا, وكذلك على أعضاء البرلمان أن يلقوا خطبهم باللغة الأصلية وليس بالإنجليزية.
        وهذا ما فتح شهية أهل اسكتلندا وأهل ويلز على طلب الاستقلال, وعندما قررت المعارضة العمالية دعم هذا الطلب لم يملك المحافظون إلا أن يصرخوا في مجلس العموم وبأعلى أصواتهم (إن هذا إعلان انفصال. المملكة المتحدة سوف تنتهي).
        .. ولعل النبوءة تتحقق ويرتد السحر على الساحر.
        وكما أن الحروب اللغوية هي وسيلة لدفع الغزاة بعيدا عن بوابة الحضارة, فإن التحالفات هي وسيلة أيضا لتحصين هذه البوابة في مواجهة الغزاة.
        فعلى مدى قرون كان أهل النخبة في البرازيل يحكون بالفرنسية باعتبارها اللغة الثانية بعد لغتهم الرسمية وهي البرتغالية, وفي عام 9881 قرر الإمبراطور البرازيلي أن تكون الفرنسية هي لغة البلاط, ومعه تدافع أكاديميون ومؤرخون ومفكرون فرنسيون للتدريس في جامعة سان باولو. وبلغت هذه الموجة ذروتها في الثلاثينيات من هذا القرن, وعلى مدى أربعة عقود بدأت اللغة الإنجليزية تحتل مكان الفرنسية في البرازيل, نتيجة للنفوذ الأمريكي, وتم توجيه الضربة القاضية إليها بإلغاء تدريسها في المعهد الدبلوماسي.
        اليوم باتت الأمور تختلف فاللغة الإسبانية بدأت تحتل المرتبة الثانية وليس الإنجليزية.
        السبب هو أن سوقا مشتركة تحمل اسم "ميركوس" نشأت وهي تضم أربع دول: البرازيل, الأرجنتين, الباراجواي, والأورجواي. أكبر هذه الدول هي الأرجنتين, ولغتها هي الإسبانية.
        وكما أن اللغة الإسبانية احتلت مكان الإنجليزية في البرازيل, فإن الأمر نفسه حدث في الأرجنتين, حيث حلت اللغة البرتغالية مكان الفرنسية والإنجليزية.
        حاليا هناك بعثات متبادلة بين البرازيل والأرجنتين ومعاهد ولجان بحث لغوي تعمل على تقريب اللغتين من بعضهما لإنتاج ما يمكن أن يسمى اللغة "الإسبالية أو البرتغانية" وهي سوف تجمع بين دول السوق. يقول الرئيس البرازيلي فرناندو كاردوسو, وهو يحكي الإسبانية بطلاقة: إن سقوط الحواجز اللغوية هو تمهيد فحسب لإلغاء الحدود بين دول (ميركوس).
        وحيث تغيب الفاشودا تعتبر اللغة عابرة للقارات, وتصير أيضا لغة المستقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق