الأربعاء، 22 أغسطس 2018

الصغير الجميل يعود و... يربح

مجلة العربي، الثلاثاء 1 يوليو 1997  25/2/1418هـ /العدد 464

  "آمل أنكم تعرفون ما تفعلونه، إنكم اليوم تقررون إلغاء ألف عام من التاريخ" قالها الزعيم البريطاني هيو غيتسكيل في عام 1962. عندما كان مجلس العموم يناقش عضوية بريطانيا في السوق الأوربية المشتركة.
          ويضيف غيتسكيا موضحاً: "لقد أمضينا القرون الخمسة الماضية ونحن نحارب أوربا دفاعاً عن حدودنا".

         الحدود ما عادت مقدسة ولا "أرض الأجداد" وعظام ثعلب الصحراء الجنرال إرفين رومل يتخلى عن منصبه كحاكم لمدينة شتوتغارت وهي أكبر مدينة صناعية في العالم تهوي باتجاه الإفلاس والسبب أن شركات مرسيدس وديملر بنز وبوش وبورش وعمالقة أخريات لم تساهم العام الماضي بمارك واحد في ميزانية المدينة، بل أكثر من ذلك، فإن هذه الشركات تعمل باتجاهات معادية للوطن الأم، فهي من ناحية تقوم بتوظيف عمال من إيرلندا وبولندا وحتى تركيا لأنهم أرخص أجراً وأقل تكلفة ومتطلبات اجتماعية، وهي من ناحية ثانية تغلق  كثيراً من منشآتها في الوطن الأم وتنقل هذه المنشآت إلى دول أخرى مثل إندونيسيا لا يزيد أجر العامل الفني فيها على 8 دولارات في اليوم، بينما هي تدفع 18 دولاراً للعامل الألماني عن الساعة الواحدة.
          إن شعار "ألمانيا فوق الجميع" الذي قاتل الجنرال رومل في ظله في العلمين، يتهاوى ليأخذ مكانه في زمن رومل الحفيد شعار "مرسيدس فوق الجميع.. وفوق ألمانيا أيضا" وتتحول الدول إلى واقع من دون تاريخ ولا حدود.
          ويعلق الرئيس الألماني رومان هيرتزوغ على هذه "الخيانة" فيقول غاضباً: "إن الشركات التي تغلق منشآتها في ألمانيا وتصرف عمالها، وبالكاد تدفع أي ضريبة، هذه الشركات، كما أراها في كتابي لا تعود شركات ألمانية".
          ويضيف: ليس المارك وحده هو ما يصنع الوطنية الألمانية.
          الرئيس الألماني يسحب جواز السفر من شركة مرسيدس"!".
          المفكر الأمريكي فرنسيس فوكوياما صاحب كتاب "نهاية التاريخ" فاجأ الجميع في الندوة التي أقامها مركز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية في أبوظبي، عبر حوار نقلته الأقمار الصناعية، عندما نفى ضمينا الأسباب الأيدولوجية لانهيار الاتحاد السوفييتي، إذ قال ان الطائرة في الخمسينيات لم يكن مستحيلاً على السلطة المركزية في ذلك الوقت أن تحدد عدد القطع، وأن تتخذ قرارا بتطوير بعضها. ولكن مع نهاية الثمانينيات فإن العدد تضاعف عشرات المرات، ولم يعد بإمكان السلطة المركزية أن تستوعب هذا التطور الهائل وأن تكون هي صاحبة القرار في صنع الطائرة، وبالتالي كان عليها أن تتخلى عن هذه المركزية وأن تترك للآخرين حرية الاختيار واتخاذ القرار المناسب.
          ولأنها لم تفعل ذلك، ولأنها قاومت هذه اللامركزية، فقد تحولت إلى قيادة "محافظة" تريد أن تحافظ على الوضع القائم وتحفظ تراثها فصارت تراثاُ.
          وبالطبع تبدو عبارة من نوع "الثورية  المحافظة" مضحكة في القاموس السياسي، ولكن كتاب "مستقبل الرأسمالية" للمؤلف الأمريكي الشهير "ليستر ثرو" وقد صدر أخيرا، يمنحنا خبرة لتفسير هذه الظاهرة. يقول ثرو: "إن هؤلاء الذين يحكمون اعتماداً على النظام اختارهم ليحكموا، وبالتالي فلابد أن يكون هذا النظام هو "الأفضل". وإذا لم تقع أي تهديدات من الداخل أو من الخارج لهذا النظام، فإن أي تغيير محتمل سوف يقلص من احتمالات أن يحكموا في المستقبل. ولأنهم يعرفون أنهم يحكمون بموجب القيم السائدة اليوم، فإنهم وبالغريزة، يقاومون التغيير.
الأخ الأكبر والأصغر والتاريخ
          وما يصح على الأنظمة السياسية يصح على الشركات والأفراد.
          الباحث والمؤرخ الأمريكي فرانك سولوي وضع دراسة استغرقت إعدادها 26 عاماً، وصدرت في كتاب عنوانه "ولد ليتمرد": نظام الولادة ودينامية العائلة" يؤكد فيه: "الشركات، كما الدول، تموت عندما ترفض التجديد وتصبح محافظة". يضيف: "إن المولودين أولاً في العائلة الواحدة "هم محافظون غالباً" إنهم يريدون المحافظة على الإمبراطورية، وغالباً ما يفشلون أما المولودون لاحقاً في العائلة الواحدة "فإنهم متمردون"، يتخلّون عن المركز، ولكنهم يزيدون مساحة الإمبراطورية في الأطراف، وهم بالتالي ينجحون في الحفاظ عليها". ويصف الباحث الأمريكي المولودين أولاً بأنهم "مديرون مستبدون، يحبون النظام" كما يصف المولودين لاحقاً بأنهم "استراتجيون قادرون على التكيف والتجديد"، وبينما "يتحدث الأوائل بشغف عن التاريخ لأنهم يستمدون منه سلطتهم. فإن المولودين لاحقاً يتمردون على هذا التاريخ ليصنعوا مستقبلاً يعرفون أنه سوف يتحول إلى تاريخ.. لذلك فإنهم غالباً ما يبدعون".
          إن سقوط التاريخ يستدعي سقوط الحدود ومعهما الإمبراطوريات.
غزو الكويت موضة قديمة
          "أن الحدود تتحول إلى ممرات" العبارة يطلقها الدكتور ريتشارد روزكرينس مدير مركز العلاقات الدولية في جامعة كاليفورنيا، في دراسة تحمل عنوان "صعود الدولة الواقعية "The Rise of Virtual State"
          يقول الدكتور ريتشارد: :إن اهتمام العالم مازال - وبسوء فهم كبير ـ يتركز على الصراع السياسي والعسكري حول الأراضي والحدود، ففي البوسنة الحريحة حاول القادة الصرب إقامة كيان مستقل يتحالف مع بلجراد. وقبل سنوات، حاول القائد العراقي صدام حسين السيطرة عللا سوق النفط العالمية عبر غزو الكويت. إن النفط المنتج من الأراضي يجسد طموحاته كلها. وفي كشمير تحاول كل من الهند وباكستان السيطرة على شعب لا يستطيع على الأغلب أي منهما أن يحكمه، والحروب نفسها تقع في رواندا وبوروندي وليبيريا.
          إن هذه الأمثلة على أي حال، تنظر إلى الماضي. إن الدول الأقل نمواُ مازالت تنتج بضائع تستخرج من الأرض، وترغب في الاستحواذ على المزيد من الأرض. أما في الاقتصاد حيث رأس المال والعمل والمعلومات هي القوى المنتقلة باستمرار والمهيمنة، فإن النزاع على الأراضي لم يعد له وجود. إن الدول الصناعية تفضل أن تفتح أسواق العالم لا أن تستحوذ على المزيد من الأراضي.
          والدولة الواقعية، وهي الدولة التي قلّصت إمكانات الإنتاج داخل حدودها إلى أقصى حد ممكن، هي النتيجة المنطقية للتحرر من الأرض".
          ويوضح ريتشارد أن نظرية غزو الأراضي باتت موضة قديمة، إذ بعد الحرب العالمية الثانية فإن العالم، وفي طليعته ألمانيا واليابان تحول من غزو الأراضي للاستحواذ عليها غلى غزو الأسواق لينال أكبر حصة فيها، وفي تلك المرحلة كانت البضاعة هي ما يتم نقله من البلد الأم، حيث تقيم الشركة، ولكن فيما بعد لم يعد البلد الأم مهماً للشركات، مادامت تستطيع أن تنتج خارج حدودها ما تستطيع أن تبيعه سواء في السوق العالمية أو المحلية، وبالتالي باتت الاستراتيجيات الاقتصادية تعادل العسكرية، إن لم تتفوق عليها.. وعلى النقيض من روسيا القيصرية وألمانيا الامبريالية وأمريكا القرن التاسع عشر، فإن الدولة الواقعية لا تطمح إلى جمع كل النشاطات الاقتصادية" من المناجم إلى الزراعة، ومن الإنتاج إلى التسويق، بل هي تسعى إلى التخصص في التقنيات الحديثة وخدمات الأبحاث، وتحصل على دخلها ليس من الانتاج الصناعي ذي القيمة العالية فحسب، بل من تصميم الإنتاج وتسويقه وتمويله.
          صحيح أن الأرض ثابتة ويمكن غزوها والسيطرة عليها وامتلاكها، ولكن قيمة هذه الأرض تتهاوى في عصر العمل ورأس المال والمعلومات، وهذه كلها متحركة ومنتقلة، وهي مثل الزئبق يصعب الإمساك بها، لقد نهبت قوات صدام حسين في آب ـ أغسطس 1990 أجهزة الكمبيوتر من الحي التجاري والمصرفي في مدينة الكويت لتكتشف هذه القوات أن الأموال النقدية "الكاش" في الحسابات الجارية قد تم تحويلها إلى الخارج اليكترونيا، ومع أن الحكومة الكويتية كلها باتت خارج الكويت فإنها كانت قادرة على الاستمرار في صرف مليارات الدولارات لمقاومة القوات المحتلة.
          الأصول الثابتة ـ والأرض من بينها ـ لم تعد تشكل إغراء، فالاستثمار في الصناعة يحقق أرباحاً أكثر من الاستثمار في الأرض، والاستثمار في الخدمات الدولية يحقق أرباحاً أكثر من الاستثمار في الصناعة. والدولة التجارية التي قامت في السبعينيات والثمانينيات، تخلي مكانها مع نهاية القرن للدولة الواقعية التي تعتمد قوتها الاقتصادية على الأصول المتحركة: العمل، رأس المال والمعلومات.
الفراشة والديناصور
          ومجدداً يؤكد الدكتور ريتشارد على أن ما يصح على الدول يصح على الشركات، فالدولة الواقعية تمهّد الطريق لإنشاء الشركة الواقعية وهذه الشركة هي "رأس بلا جسد" وبدلاً من أن تقوم وحدها بكل عمليات الإنتاج والتمويل والتسويق، فإنها تعتمد على التحالفات، أي أنها شركات أقرب إلى الفراشة منها إلى الديناصور.
          ويطرح ريتشارد شركة فورد مثالاًن فيقول إن هذه الشركة أقامت في ولاية ميتشيجان إمبراطورية صناعية تضم مركز قيادة، مكتب تخطيط، عمال إنتاج، ومصانع تفترش مساحة شاسعة من الأرض، ولكن كما تبين فيما بعد، فإن هذا النشاط الكلي كان يحتاج إلى نفقات باهظة للصيانة وللتشغيل، بينما كانت هناك شركات أخرى أكثر قدرة على المنافسة، مع شركات أخرى متخصصة، وأن تستخدم خطوط لإنتاجها، وبالتالي تحصل على بضاعة ممتازة بتكلفة أقل.
          وهو ما فعلته شركات من نوع "أبل" و"اي.تي.تي" و"موتورلا"، وكثير من شركات الكمبيوتر الصغيرة التي لاتملك أي إمكانات للتصنيع وتقوم تصميماتها في شركات أخرى.
          ويرى الدكتور ريتشارد أن سويسرا هي أفضل مثال للدولة الواقعية، وأن شركة "نستله" التي تقوم بتصنيع 98 في المائة من إنتاجها خارج سويسرا، الدولة الأم، هي مثال للشركة الواقعية، كما أن سنغافورة التي تقوم باستثمارات كبيرة في الصين وفي ماليزيا وأماكن أخرى من العالم تخطو بسرعة على طريق الدولة الواقعية.
          ويستنتج الدكتور ريتشارد أنه في هذا السياق فإن العالم يتجه إلى أن ينقسم بين "رأس" و "جسد" دول تشكل الرأس، وكذلك شركات، ودول تمثل الجسد.
وبينما تأخذ دول مثل أستراليا وكندا مكان الرأس في القرن المقبل، فإن دولاً مثل الصين سوف تكون نموذجاً للدولة الجسد. إن الصين سوف تشكل إغراء للانتاج الصناعي للبضائع لأن مؤسات أخرى أكثر تطوراً سوف تقوم بتصميم وتمويل وتسويق هذا الإنتاج الذي تصنعه الصين. وينتهي ريتشارد إلى التأكيد على القرن المقبل ليس قرن بريطانيا العظمى بل هو قرن هونغ كونغ، والاستثمار الرئيسي ليس في الأرض ولا في المصنع بل في الإنسان المبتكر.
          وحول هذا الاستثمار في الانسانن ويضيف: "إن الدولة إذا أرادات توفير السعادة لشعبها، فلابد لها من العولمة. هذا الدرس وعته أوربا جيداً، والعامل البريطاني عندما لا يجد عملاً ينتقل إلى ألمانيا حيث يعمل ويتعلم اللغة الألمانية. أما في أمريكا فإن الفرد الأمريكي هو الأقل بين شعوب العالم الذي يتقن لغات أخرى غير لغته، وهو الأقل معرفة بطاقات الآخرين. إن الدولة لا تستطيع أن تتحكم بتحديات الاقتصاد القادم الخارج، ولكنها قادرة على أن تهيئ مواطنها للاستجابة إلى هذه التحديات، عبر عولمة هذا المواطن، وهو ما يحتاج بالتأكيد إلى نظام تعليمي جديد يشق أمامه الطريق".
          إن الدولة الواقعية ومثلها الشركة هي عودة إلى "الصغير الجميل والمربح أيضاً"، وفي هذه الدولة ليست مساحة الأرض هي المهمة بل مساحة اإنسان. وبيل جيتس شاهدن فالفكرة لم تعد تملأ الرأس فقط بل الجيب أيضاً وخزينة الدولة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق