الاثنين، 27 فبراير 2012

الرقابة في مواجهة الطوفان

مجلة العربي، الأحد 1 أغسطس 1993  13/2/1414هـ / العدد 417

تقول الرواية إن رائد الفضاء الأمريكي نيل أرمسترونغ أشهر إسلامه، إذ بينما كان الرائد يسير في أحد شوارع القاهرة سمع صوت المؤذن، فسأل مرافقه: ما هذا الصوت وماذا يقول؟ أجاب المرافق: إنه يدعو المسلمين إلى الصلاة، فقال الرائد: ولكنه الصوت نفسه الذي سمعته وأنا أسير فوق سطح القمر، ثم أشهر الرائد إسلامه (!).
         الرواية نشرتها صحيفة في ماليزيا، ونقلتها عنها صحيفة عربية كان يرأس تحريرها مسئول في وزارة الإعلام في تلك الدولة واتصل رئيس التحرير بي في واشنطن وطلب إجراء حوار موسع مع أرمسترونغ. اتصلت بمكتب رائد الفضاء لتحديد موعد، اعتذر مدير المكتب بسبب انشغال رائد الفضاء بأعماله. ولكنه عرض أن أرسل إليه ما أريد من الأسئلة، وهو سوف يتولى الإجابة عنها. وهكذا وضعت 32 سؤالا، لم أوفر فيها حتى سؤاله عن علاقته بزوجته بعد أن أشهر إسلامه، وما إذا كان يفكر في الاستقرار في مصر، كما ذكرت الصحيفة.
         وجاءني بعد يومين الرد بالبريد في صفحة تضم 12 سطرا، فقط، وجاء فيها: أشكرك على مجموعة الأسئلة الواردة في رسالتك، ولكن، لسوء الحظ، فإن تلك الأسئلة لا تقوم على أساس. إن التقرير حول اعتناقي الإسلام نشأ في الأصل في ماليزيا، وهو مفبرك تماما، وبالتحديد، فأنا لم أعتنق الإسلام، وأنا لم أسمع صوت الآذان، أو أي صوت آخر على سطح القمر، كما أنني في حياتي لم أقم بزيارة مصر. إنني عاجز عن تأكيد أي تفصيل في الرواية. وأعتذر عن أي إزعاج سببته لك الصحافة التي تفتقر إلى المصداقية.
         أرسلت الرد إلى الصحيفة العربية، بعد أن قمت بترجمته، وانتظرت أسبوعا، دون أن يظهر الرد في الصحيفة، وعندما سألت عن سبب التأخير، قال مدير التحرير: إن الرد لن ينشر. وأوضح: لقد ناقشنا المسألة في اجتماع التحرير، وقررنا عدم النشر (!).
         قلت: ولكن هذا من حقه. أجاب: يا أستاذ لو نشرنا الرد لقامت علينا القيامة وسيعتبر الكثيرون أننا رددناه عن إسلامه (!).. وبقي أرمسترونغ مسلما (!).

جلسة ساخنة في عُمان
         هذا نموذج عن الرقابة الذاتية في الوطن العربي. وهو يطرح قضية شغلت- وما زالت- دول وشعوب العالم الثالث طيلة العقد الماضي، وما زالت تزداد سخونة، وهي: كيف يستطيع هذا العالم الثالث، ونحن جزء منه، حماية أمنه القومي وسلامه الاجتماعي والمصلحة العليا (!) في مواجهة هذا الطوفان من المعلومات الذي تفرضه ثورة الاتصالات على بقاع الأرض كلها أرضا وبشرا؟.
         الوقائع العملية تطرح جوابين، الأول هو: المزيد من الرقابة. والثاني هو: المزيد من المعلومات. ولعل الحوار الساخن الذي شهده مجلس الشورى العماني قبل فترة يكشف عن البعد الميداني للجوابين معا، فقد طرح أحد أعضاء مجلس الشورى في تلك الجلسة على وزير الإعلام عبدالعزيز الرواس السؤال التالي: نحن مجتمع مسلم. ولكننا نواجه غزوا غربيا يدخل علينا بيوتنا ويفسد علينا أخلاقنا، ويهدد سلامنا الاجتماعي (...) فلماذا لا تصدرون أمرا بمنع "الدش" وهو وسيلة الاستقبال لذلك الغزو المدمر؟.
         ورد وزير الإعلام بالتأكيد على "أننا لسنا حكومة ممنوعات ولا نريد أن نكون، وأن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يمنع الشر ولكنه لم يمنعه تاركا للإنسان حرية الاختيار (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها..) وأن رب الأسرة هو المسئول الأول عن هذا الاختيار، واختتم الوزير رده متسائلا: لماذا هذا التركيز على الجانب السلبي بينما هناك الكثير من الإيجابيات يمكن الاستفادة منها فيما يقدمه الإعلام المعاصر من معلومات؟ ".
         هذا على المستوى الرسمي، أما على المستوى الشعبي فإن كثيرا من المواطنين، خاصة في دول الخليج، اطلعوا على تلك المنشورات وكذلك بعض المقالات التي تصف "الدش" بأنه العدو الأول للمجتمع. وتصدر فتوى بتحريمه على كل مسلم، بينما على الجبهة المقابلة، يردد الفريق الآخر بأن مواجهة المعلومات لا تكون إلا بالمزيد من المعلومات. وأن أمراض الديمقراطية لا يمكن علاجها إلا بالمزيد من الديمقراطية.
         ومع أن هوة واسعة تفصل بين وجهتي النظر إلا أن همومهما مشتركة وهي الحفاظ على الأمن القومي والسلام الاجتماعي ومصالح الوطن العليا. وهنا ربما كان من المفيد العودة إلى بعض التجارب العربية والغربية للحفاظ على الأمن القومي في ظل تهديدات تتراوح بين الحرب والخيانة.
الرقابة بمفعول رجعي
         في العام 1976 فرضت الحكومة اللبنانية الرقابة على وسائل الإعلام، وكلفت الضابط زاهي البستاني بتنفيذ هذه المهمة، وكان الكاتب المسرحي سعد الله ونوس يشرف على تحرير زاوية في إحدى الصحف اليومية، وكانت الزاوية تحمل اسم "من يسمع صوت الأجداد؟"، وهي تضم مقتطفات من التراث وكتابات لرواد عصر النهضة، وقد نالت هذه الزاوية حصة الأسد من مقص الرقيب، وفي إحدى الليالي، وبعد أن شطب الضابط الرقيب بقلمه الأحمر العريض على الزاوية التي كانت تضم عبارات كتبها رفاعة رافع الطهطاوي قلت للرقيب الضابط: "ولكن هذه العبارات كتبها الطهطاوي قبل أن تحمل جدتك بأبيك لما ورد البستاني على الفور "لقد اخترع نوبل الديناميت قبل أكثر من مائة عام.. ولكن الديناميت ما زال.. يقتل"، وذهبت العبارة مثلا في المدى الذي تستطيع الرقابة أن تصل إليه.
         وقبل أسابيع كنت في جولة في بعض العواصم العربية باحثا عن مخطوطات يمكن أن تساعد في فهم ظاهرة "الأصولية"، وفي إحدى المكتبات العامة، وبعد أن تابعت على شاشة الكومبيوتر كشفا بالمخطوطات المتوافرة، طلبت الاطلاع على مخطوطة معينة يعود تاريخها إلى القرن الثالث للهجرة، نظر مسئول المكتبة إلى العنوان وضغط على أزرار في الكومبيوتر، فظهرت إلى جانبي عنوان المخطوطة عبارة "سري جـدا" (!)، واعتذر المسئول بلباقة مهذبة، وقال "أنت تعرف.. إن هناك مخطوطات ما زالت قادرة على إثارة الفتنة"، ولم أنجح في رؤية المخطوطة التي مضى على تأليفها ما يزيد على ألف ومائة عام (!).
         والرقابة بمفعول رجعي لا تقتصر بالتأكيد على دول العالم الثالث وحده، بل هي إحدى سمات العصر، وقد كشفت الشهر الماضي "رابطة المكتبة الأمريكية" قائمة بأسماء الكتب الممنوع تداولها في مدارس الولايات المتحدة حتى اليوم، وظهر في القائمة أن من بين الممنوعات رواية "أوليفر تويست" لتشارلز ديكنز، لأنها تحوي مغالطات دينية، ورواية "عناقيد الغضب" لجون شتاينبك لأنها تسيء إلى المقدسات، ورواية "مغامرات هاكلبري فن" لمارك توين لأنها عنصرية، أما في ولاية فلوريدا، فإن المكتبات المدرسية تمنع التلاميذ من قراءة كتاب "مغامرات أليس في بلاد العجائب" قبل الحصول على إذن مكتوب من أهل التلميذ، لأن الرواية "حافلة بأحداث العنف" والرقابة في مدارس أمريكا لا تقوم بها السلطة ولكنها تتم بمبادرة من مجالس أولياء الأمر، أي أهالي التلاميذ.
         أما على المستوى الرسمي فإن "الديمقراطية الأمريكية" تطرح عدة نماذج للتعامل مع وسائل الإعلام في ظل ظروف أمنية استثنائية، مثل حرب فيتنام، واحتجاز الرهائن في طهران، وكشف أسماء عملاء جهاز الاستخبارات الأمريكية (سي. آي. أيه).
نيكسون و.. الكاسيت
         يزعم المؤلفان "وولتر مورفي وميتشيل دانيلسون" في كتابهما "الديمقراطية الأمريكية" وقد صدر في 9 طبعات حتى الآن، ويعتبر أحد المراجع البارزة في فهم آلية عمل الديمقراطية في أمريكا، يزعمان أن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون سقط ضحية اهتمامه بالتاريخ "إذ أن أخطاءه قد تأكدت بما لا يدع مجالا للشك عبر شرائط الكاسيت التي سجل فيها محادثاته في البيت الأبيض"، غير أن المؤلف الأمريكي "سيمور هيرش" يكشف في كتابه "ثمن السلطة" عن أن دوافع الرئيس نيكسون لتسجيل محادثاته في البيت الأبيض لم تكن نتيجـة اهتمامه بالتاريخ بقدر ما كانت نتيجة لرغبته في فرض "الرقابة" على مستشاره لشئون الأمن القومي هنري كيسنجر، ومنع تسريب أخبار البيت الأبيض إلى وسائل الإعلام، أو "توضيح" ما يتم تسريبه حفاظا على الأمن القومي ومصالح الرئيس الانتخابية (!)
         ويروي هيرش الذي نال جائزة "بوليتزر" وجوائز أخرى جعلته من أبرز رجال الإعلام الأمريكيين أن الرئيس نيكسون " قرر، ومنذ منتصف شهر يناير، كانون ثاني عام 1971 أن يستخدم الكاسيت في تسجيل محادثاته، وهي سابقة لم يلجأ إليها أي رئيس أمريكي من قبل.. لأن الرئيس اكتشف أن كيسنجر كان يقوم بتدوين مذكرات عن هذه المحادثات.. ولأنه كان يعرف أن كيسنجر يقوم بتغيير مواقفه من دون "إشارة مسبقة". وينقل الكاتب عن كبير مستشاري نيكسون.. أن كيسنجر لم يعرف بأن الرئيس يقوم بتسجيل محادثاته معه إلا في مايو- آيار عام 1973 أي بعد أكثر من سنتين على بدء العملية، وكان رد كيسنجر هو أنه قام بتسجيل محادثاته مع الرئيس، كما مع الجميع، وتابع تسريب الوثائق الأمنية المهمة إلى "نيلسون روكفلر في نيويورك.." وفي غمرة الصراع على السلطة بين أقطاب البيت الأبيض في تلك الفترة، وأبرزهم الكساندر هيغ المقرب من الرئيس، وفي ظل هاجس الرئيس حول إعادة انتخابه لولاية ثانية، بينما حرب فيتنام تتصاعد وتنتقل إلى كمبوديا ولاوس، وتحصد آلاف الأمريكيين.. فقد تحولت الرقابة إلى "بانوراما" تشمل الجميع، ولا توفر حتى البنتاغون ولا مكتب التحقيقات الفيدرالي ولا لجان الكونغرس. ولم تقتصر الرقابة على الجانب الأمني فقط، فالقضايا الشخصية التي يتم تسجيلها عبر المحادثات الهاتفية كانت تجد من يقوم بتسريبها إلى أجهزة الإعلام، ولم يكن مهما معرفة من يقوم بتسريبها فقد كان الجميع يفعلونها.. وكانت استراتيجية نيكسون ومعه كيسنجر في هذا السياق هي ليست "منـع النشر"بل معالجة النشر.. بالنشر، أي بالمزيد من المعلومات التي تهدف إلى تصحيح إحدى الوقائع بما يخدم صاحب التصحيح، ولم يكن مستغربا أن يصف هيغ، في ذروة صراعه مع كسينجر، أحد كبار العاملين في البيت الأبيض بأنه "شيوعي" ويتم تسريب الو صف إلى وسائل الإعلام، بينما يحاول كيسنجر حماية مساعدة اليهودي "سونفيليد" عندما اكتشف جهاز الـ "إف. بي. آي" أن هذا المساعد "عميل مزدوج " ويعمل بالتنسيق مع السفارة الإسرائيلية في واشنطن (!)، وكما يتبين فيما بعد، فإن وزير الخارجية في تلك الفترة وليام روجرز كان واحدا فقط من ضحايا كيسنجر، وبالطبع لم تخضع أي من الصحف التي نشرت ما يسمى "أوراق البنتاغون" حول استراتيجية الحرب الدائرة في فيتنام إلى أية رقابة أو مساءلة، مع أن تلك الأوراق تدخل في باب "سري جدا" ولم تتم إحالة أي "متهم" إلى المحكمة، بل حاولت الإدارة الأمريكية جهدها، وعبر طوفان من "التوضيحات" صرف اهتمام العدو الفيتنامي عن سلم الأولويات في تلك الاستراتيجية العسكرية التي لم تعد سرية (!). كانت أمريكا في حالة حرب سقط فيها ما يزيد على 50 ألف قتيل، ومع ذلك، فإن التضحية بالإعلام لحماية الأمن القومي لم تطرح على الإطلاق.
كريستوفر والرهائن
         علاج النشر بالنشر وليس بالرقابة أو بالمنع هو العلاج الذي يطرحه أيضا وزير الخارجية الأمريكي الحالي "وارين كريستوفر" في كتاب صدر عام 1985 ويحمل عنوان " الرهائن الأمريكيون في إيران- إدارة الأزمة ".
         كريستوفر كان كبير المفاوضين مع المسئولين الإيرانيين للإفراج عن رهائن السفارة الأمريكية في طهران عام 1980 وهي الأزمة التي استمـرت مدة 444 يوما وكانت أبرز أسباب هزيمة الرئيس جيمي كارتر في مواجهة المرشح المنافس رونالد ريغان. يقول كريستوفر في تقديمه للكتاب الذي شارك في تأليفه مجموعة من فريق التفاوض.. إن الإعلام في الولايات المتحدة لا يكتفي بتسجيل الوقائع للتاريخ، بل إنه "يشارك في صنع هذا التاريخ" ويحدد كريستوفر سلبيات وإيجابيات هذا الإعلام خلال أزمة الرهائن، ويعرض كيف أن هذا الإعلام الأمريكي تحول إلى منبر لمحتجزي الرهائن "ينقلون وجهة نظرهم إلى العالم مباشرة". وكيف أنه ساهم أحيانا في تفسيرات مغلوطة لمواقف المتفاوضين "أدت إلى تعقيد المفاوضات" ويضيف كريستوفر أكثر من ذلك، كان الاتجاه يميل إلى تغطية الأحداث خارج نطاقها التاريخي، فعشية نشوب الأزمة كانت معرفة الرأي العام الأمريكي بإيران شبه معدومة، كما أن العلاقة الحميمة التي كانت تربط الإدارة الأمريكية بشاه إيران، ومدى اضطهاد الشاه لأبناء شعبه كانت تغيب غالبا عن الصورة، على أن تلك العلاقة يمكن أن تفسر كراهية الإيرانيين للولايات المتحدة. غير أن كريستوفر يؤكد من ناحية أخرى أن الإعلام الأمريكي نجح في "خلق رأي عام وطني يوحده الغضب ضد محتجزي الرهائن".
         ويقترح وزير الخارجية الأمريكي الحالي دورا للحكومة في خلال الأزمات وهو أن تقوم بتزويد أجهزة الإعلام بالمعلومات الضرورية واللازمة لتقديم خدمة متكاملة.
         ويقول: إن الإدارة لم تبذل جهودا كافية للمساعدة على توفير الخلفية للأحداث، وكما كشفت الوقائع فيما بعد، فإن أكثر المسئولين معرفة بالتفاصيل كانوا الأقل رغبة في التواصل مع الإعلام.. وبالتأكيد أن هناك وسائل كثيرة لتطوير علاقة الإدارة مع الإعلام خاصـة في الموضوعات الحساسة جدا.. ومن دون شك فإن الصحافة الحرة يمكن أن تأخذها الإثارة، بل وأن تلعب دورا معرقلا لدبلوماسيتنا وعملياتنا في أنحاء العالم، ولكن هذه النظرة جزئية، كما كانت تبدو أحيانا في قضية الرهائن، إذ أن الصحافة الحرة لا يمكن للديمقراطية أن تستغني عنها وهي "أغلى رأسمال للمواطنين الأحرار". وهكذا يبدو أنه في ذروة أزمة الرهائن فإن إيجابيات الإعلام في حماية أرواح الرهائن كانت أكثر من سلبياته.

المطاردة
         مع ذلك، فإن الآلة الديمقراطية الأمريكية لا توفر أحيانا أساليب العالم الثالث في مطاردة "العدو" ومحاولة الإجهاز عليه، ولكن من دون نجاح يذكر، على غير ما يجري في عالمنا الثالث. ويروي المؤلف الأمريكي" فيليب آجي" في كتاب " المطاردة " وقد صدر عام 1985 كيف حاولت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي. آي. أيه) وعلى مدى 14 عاما الإجهاز عليه وتصفيته أو على الأقل منه من الكتابة والنشر، وقد بدأت مغامرة "آجي" في العام 1975 عندما أصدر كتابا أحدث دويا دوليا، وتمت ترجمته إلى 22 لغة. عنوان الكتاب هو "داخل الوكالة: مفكرة "السي. آي. أيه "، وفيه يكشف المؤلف بالأسماء والوثائق نشاط " السي. آي. أيه " حول العالم، والواجهات التي تتخفى خلفها، والعمليات التي قامت بها في دول أمريكا اللاتينية ودول أخرى أوربية وفي العالم الثالث، فقد التحق "آجي" بالوكالة عام 1957 وحمل رتبة ضابط فيها حتى عام 1968، حيث قرر بعد "العمليات القذرة" التي ارتكبتها في أمريكا اللاتينية أن ينسحب منها وأن "يفضحها" وكانت إحدى نتائج نشر الكتاب هو أن اثنين من عملاء الوكالة تم اغتيالهما في اليونان، كما أن "السي. آي أيه " اضطرت إلى تغيير هويات العملاء والواجهات التي يعملون خلفها، بالإضافة إلى أنها واجهت جلسات تحقيق صعبة في لجان الكونغرس الأمريكي. وكان رد الوكالة هو اللجوء إلى القانون، وبعد 11 عاما من مطاردته قانونيا تم سحب جواز السفر الأمريكي منه، ثم استمرت المطاردة في العواصم الأوربية، حيث طرد من عواصم خمس دول أطلسية ليستقر أخيرا في ألمانيا مع عائلته، والمهم في كتاب "المطاردة" هو أن كثيرا مما ورد فيه، سبق نشره في صحف ومجلات تصدر في أمريكا نفسها، ومن بينها "كاونتر سباي- الجاسوسية المضادة" وهي مجلة تباع في الكثير من المكتبات الأمريكية.
         وما زال آجي يكتب، وما زالت المطاردة مستمرة (!)

صناعة "الإعلام الجديد"
         هذه التجارب تقود إلى طرح سؤال نظري، وهو: هل الرقابة ما زالت قادرة على حماية الأمن القومي وحفظ سلام المجتمع؟ نقول إنه سؤال نظري، لأن معظم الأنظمة العربية تمارس، عمليا، هذه الرقابة، من دون أن تمنح الفرصة للمجتمع كي يمارس العلاج الآخر، وهو المزيد من المعلومات والمزيد من النشر، والمزيد من البث الإذاعي والتليفزيوني الحر غير الخاضع للرقابة، الرسمية خاصة، ورغم أن هناك أوهاما كبيرة ما زالت تحاول إعادة ترميم سور برلين بعد سقوطه، إلا أن صناعة "الإعلام الجديد" ربما تغير في إعادة أصحاب هذه الأوهام الكبيرة إلى وقائع عصرنا الراهن، وفي هذا السياق، يؤكد تقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية أن المردود المتوقع لصناعة الإعلام الجديد سوف يصل إلى مبلغ 120 مليار دولار سنويا في أمريكا وحدها، وأن برنامج "خدمة المعلومات" في هذه الصناعة يستأثر بعائد قدره 9 مليارات دولار سنويا، بينما تبلغ حصة الفيديو المنزلي 12 مليار دولار، والأهم من كل ذلك، أن "ترويكا" التلفزيون والكومبيوتر ونظم الاتصالات سوف تكون قادرة على بث المعلومات على 500 شبكة تلفزيونية داخل كل منزل تصله الكهرباء (!).
         وهذه الصناعة العملاقة لن تعجز بالتأكيد عن تصنيـع وسائل التسلل من حواجز الرقابة لتقوم بمهمة الغزو الثقافي والحضاري على أكمل وجه لمعظم بقاع الأرض. وما يحمي المجتمعات من هذا الغزو المحتوم ليس الرقابة بالتأكيد لأنها بمقدار ما تنجح في فرض سيطرتها على الداخل فإنها في الوقت نفسه تساهم في مصادرة مناعة المجتمع على مقاومة الغزو، بحيث تصبح الطريق أمام هذا الغزو ممهدة تماما، وهذا ما يؤكده رئيس شركة والت ديزني "ريك فرانك" أحد رواد صناعة الإعلام الجديد، عندما يقول "في هذه الصناعة لا خيار أمامنا فإما أن نكون جزءا من القاطرة أو نتحول إلى جزء من.. السكة".

أبو عبيدة " القفاف"
         يروي لي شيخ عماني، تعقيبا على حديث وزير الإعلام عبد العزيز الرواس حول "أننا لسنا مجتمع ممنوعات" حكاية أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي وكان يلقب بـ "القفاف" ويقول الشيخ إن أبا عبيدة تزعم الحركة الإباضية بعد خروجه من سجن الحجاج بن يوسـف الثقفي عام 95 هـ، وأوجد حكومة سرية في البصرة، مع أن معظم أعضاء الحركة كانوا من قبيلة الأزد المقيمين في عُمان، كما أن مؤسسها هو جابر بن زيد الأزدي، وكان أبوعبيدة في البصرة يتظاهر بصنع القفاف حتى لا يخطر ببال أحد أنه زعيم حركة مناهضة للحكم، وبينما كان يلقي دروسه على تلاميذه كان هناك حارس يجلس على الباب الخارجي للسرداب الذي يجتمعون فيه.. فإذا مر أحدهم حرك الحارس السلسلة فيتوقف أبو عبيدة عن إلقاء دروسه ومحاضراته ويخفي أوراقه وكتبه ويشتغل بصنع القفاف.. وقد نجح أتباع أبو عبيدة في بناء الدولة الرستمية في المغرب العربي عام 162 هـ.
         ويعلق الشيخ العُماني: تصور أنه في ذلك العصر، حيث كانت وسائل الاتصالات تعتمد على القدمين والجمل، فإن الحركة التي قامت في عُمان أقامت حكومتها السرية في البصرة ثم ما لبثت أن بنت دولتها في المغرب.. وها هي باقية في عمان حتى يومنا هذا.. فماذا يفيد المنع والقمع إذن حتى ولو كان على رأسه الحجاج؟
الإمارات: الغزو والرقابة
         عقد المجلس الوطني في دولة الإمارات العربية المتحدة جلسة في 8 (حزيران) يونيو الماضي ناقش فيها بحضور وزير الإعلام خلفان الرومي السياسة الإعلامية للدولة ودور الرقابة، هذه مقتطفات مما دار فيها:
         * على جاسم: تحدث عن الغزو الإعلامي، أو الغزو الفضائي أو ظاهرة "الدشات".. إذ تتعرض المجتمعات العربية والإسلامية إلى غزو إعلامي من الخارج نظرا لقدرة هذا السلاح الكبيرة على تفكيك المجتمعات وغزو عقول أبنائها لتشويهها والعبث بها، وجرها إلى متاهات أخرى. وقد عجز الشرق والغرب عن غزو مجتمعاتنا بالطرق أن الوسائل العادية (....) فلما لم تتحقق مآربهم توجهوا إلى وسائل أخرى وهي الغزو الإعلامي، ولأي جزء من الجسم هذه المرة؟ إنه العقل. فالغزو الفكري جاء هذه المرة عبر الأقمار الصناعية إلى كل منزل، وبدأت الشركات تتنافس فيما بينها لعرض ما تبثه من سموم للشباب والمجتمع بصفة عامة فخفضت الأسعار لتكون في متناول الجميع، وقد أصبحت اليوم بسعر 1500 درهم، وهذا المبلغ مغر للجميع.
         * سلطان أحمد حارب: لا بد من الإشارة إلى التعتيم الإعلامي، فأثناء غزو القوات العراقية للكويت لم نسمع عنه من إعلامنا إلا في اليوم الرابع، والشيء نفسه عن الجزر (المحتلة) نسمع عنه من أجهزة الإعلام الأجنبية.. والسؤال المطروح: هل نبقى نعتم على الأخبار؟
         * سالم حمد الشامي: لا بد من وضع بدائل وخيارات للحد من ظاهرة الإفساد عن طريق برامج المحطات عبر الأقمار الصناعية.
         * عبيد عيسى: إن أجهزة الرقابة بحاجة للدعم البشري، والمطلوب توسيع الرقابة.. وهل نحن بحاجة إلى هذا الكم من تراخيص محلات الفيديو؟
         * محمد عبد الله العتيبة: أطالب بمنع الإعلانات الخاصة بالتدخين.. كما أطالب بتشديد الرقابة. على الإعلانات التي أخذت جانبا تجاريا.
         * الوزير خلفان الرومي: بالنسبة للمحطات الفضائية فإننا بصدد عمل "كيبل" وسيكون هناك اتفاق لتغطية الدولة والتحكم بالقنوات التي نريد إرسالها.. عندنا رقابة في التلفزيون والصحف وهي تلغي أشياء كثيرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق