الجمعة، 28 أكتوبر 2011

الشركات العائلية في مواجهة العولمة المتوحشة، البطريرك و.. الملك

التاريخ: 09 أغسطس 2002

«البطريرك» هو اللقب الذي أطلقته صحيفة «وول ستريت جورنال »الأميركية على الألماني «رينهارد موهن» الذي احتل وعلى مدى أسبوع في مطلع الشهر الجاري الصفحات الأول في الصحف الاقتصادية العالمية. وموجز ما فعله «موهن» هو انه قام بانقلاب في شركة «بيرتلسمان» أطاح الرئيس التنفيذي للشركة «توماس ميدلهوف». وحكاية البطريرك مثيرة لأنها تطرح قضية العائلة والاخلاق في عصر العولمة المتوحشة.
الامبراطورية بدأت بالتراتيل البطريرك عمره 81 سنة وهو وريث عائلة «موهن» التي أقامت قبل حوالي 170 عاماً مطبعة صغيرة في بلدة «غوترا» لطباعة كتب التراتيل الدينية في سياق «الصحوة الكبرى» التي عرفتها الكنيسة المسيحية في ألمانيا، وتحولت في الوقت الراهن الى ثالث شركة إعلامية في العالم تمتلك عشرات الصحف والمجلات ودور النشر وشبكات التلفزيون على اتساع الكرة الأرضية. و«الانقلاب» الذي قام به البطريرك يكشف عن الصراع بين عالمين: العائلة والعولمة، الربح والأخلاق، وهو صراع لا يوفر دولة ولا منطقة في العالم. إذ من المعروف ان الشركات العائلية كانت وعلى مدى القرن الماضي تشكل الحاضنة الحنون للمال والأعمال، ولعل عائلات فورد وروكفلر وكيندي في أميركا هي نماذج فحسب. في ألمانيا نجح رينهارد موهن في بناء امبراطورية تقوم على سبعة أعمدة للاعلام والترفيه، وهي مجموعة «ار.تي.ال»، ويعمل فيها 7 آلاف موظف، ويبلغ دخلها السنوي 4 مليارات يورو، ومجموعة «جي.جي» ويعمل فيها حوالي 13 ألف موظف ودخلها السنوي يزيد على 3 مليارات يورو، ومجموعة «بي.ام.جي» ويعمل فيها 9 آلاف و500 موظف ودخلها السنوي حوالي 3.6 مليارات يورو، ومجموعة «راندوم هاوس» اكبر دار نشر في العالم ويعمل فيها 6 آلاف و235 موظفاً ودخلها السنوي 6 مليارات و235 مليون يورو، ومجموعة «ارفاتو» ويعمل فيها أكثر من 22 ألف موظف ودخلها السنوي يزيد على 3 مليارات يورو، ومجموعة «دايركت جروب» وفيها ما يزيد على 15 ألف موظف ودخلها السنوي 3.77 مليارات يورو، وأخيرا شركة «سبرينغر» وفيها ما يزيد على 5 آلاف موظف ودخلها السنوي 749 مليون يورو. وهذه الامبراطورية التي يزيد دخلها السنوي على 20 مليار يورو، تملك عائلة البطريرك 75% من أسهمها، بينما تملك شركة بلجيكية باقي الأسهم. ملك الصفقات الرئيس التنفيذي للشركة ميدلهوف، بعد ان تم انتخابه لهذا المنصب قبل 4 سنوات، أبلى في عمله أحسن البلاء وحقق للشركة في صفقة واحدة أرباحاً بلغت 7 مليارات دولار، وقد وصل دخله في العام الماضي الى حوالي 30 مليون يورو واستحق بجدارة اللقب الذي أطلق عليه وهو «ملك الصفقات». وقد بدأت المواجهة بين البطريرك وبين الملك عندما اعتبر الملك ان مهمته في الامبراطورية هي زيادة الارباح، ومن هنا فقد وضع خطة لطرح أسهم الشركة في البورصة بدءاً من عام 2005، على أمل ان يستقطب المليارات من المساهمين، وهو ما سوف يجعل من الشركة منافساً جدياً لامبراطورية «ميردوخ» الاعلامية. البطريرك وافق على الخطة ولكن مع تحفظ واحد هو ان الأسهم التي سوف تطرح على المساهمين لن تكون أسهم أسرة «موهن»، بل أسهم الشركة البلجيكية، أي ان مركز القرار في الامبراطورية سوف يبقى في يد البطريرك، وداخل العائلة، وقبل ميدلهوف التحفظ على مضض، فالمهم ان تدخل الشركة سوق الأوراق المالية، وعندئذ فإن هذا الدخول سوف يفرض قوانينه الذاتية، ولكنه واجه مشكلة وهي ان الأعمدة السبعة التي تقوم عليها الامبراطورية لا تجمعها ادارة مركزية واحدة، بل تعمل كل مجموعة بشكل مستقل عن الأخريات، وتكون وحدها المسئولة عن الأرباح والخسائر، إذن لابد من توحيدها أولاً كي تطرح في سوق الأسهم باعتبارها مجموعة واحدة، وهو ما اقتضى تعيين مدير عمليات يحاول «دمج» المجموعات السبع، وهذا الأمر لم يعجب البطريرك، ففلسفته في العمل تقوم على اللامركزية، وعلى ان تتحمل كل مجموعة مسئولية القرارات التي تتخذها هي وليس الآخرون، وتلك كانت نقطة حوار ساخن بين الملك والبطريرك. نقطة أخرى كانت أقرب الى القشة التي قصمت ظهر البعير وهي ان ميدلهوف كان مفتوح الشهية على حقول الترفيه والتسلية من شبكات التلفزيون الى شركات الموسيقى والأغاني، فتوسع في شرائها، وهو ما لم يعجب البطريرك، فالتراث العائلي للامبراطورية هو تراث مسيحي يقوم على نشر الكتب والمطبوعات، ومن بينها دور نشر اكاديمية لا تحقق أرباحاً ولكنها تغني البشر بالمعرفة، أكثر من ذلك من قال ان الأرباح وحدها هي ما يهم البطريرك، فهو في عام 1977 أقام مؤسسة خيرية اجتماعية منحها 69% من أسهم امبراطوريته، صحيح ان هذه المنحة معفاة من الضرائب، ولكن المؤسسة قدمت بالمقابل، ومنذ تأسيسها، مئات الملايين من اليوروهات في مشاريع عامة تخدم الناس في أوروبا كما في أميركا. وباتت عنواناً بارزاً عن العمل الطيب في مواجهة عولمة تزداد وحشية يوماً بعد يوم. وفي الأسبوع الأول من الشهر الجاري وقع الانقلاب فأطاح البطريرك بملك الصفقات، وتحول الى حدث نادر، فالقاعدة كانت باستمرار ان من يحقق الأرباح هو أفضل الرؤساء التنفيذيين، وكان ميدلهوف يربح.. ولكن البطريرك كان الاستثناء.. ولايزال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق